تحدثنا في المقال السابق عن الحكمة في مواقف وشخصيات. وأهمية الحكمة في المواقف التي تمر بحياة الإنسان، والتي تصبح سببًا لإسعادهم ومن حولهم، أو لشقائهم. وقد استعرضنا شخصية الأم التي أنارت بحكمتها وصبرها وتشجيعها العالم: أُم العالم والمخترع توماس إديسون الذي اتُهم بالغباء، وبالمعاملة الحكيمة تغيَّر وجه العالم كله بسبب اختراعاته التي قدمها إلي الإنسانية.واليوم نستكمل حديثنا عن حكمة الإنسان في المواقف، وكيف أن الحكيم يعبر بحار مواقف الحياة العاتية بسلام وأمان. يقول الحكيم: “قلب الحكيم يرشد فمه ويَزيد شفتيه علمًا.” فالحكيم حينما يتحدث، ترشده الحكمة إلي الكلمات التي يستخدمها في مواقف حياته.فقد أقام أحد نبلاء بريطانيا حفلة عشاء، ودعا إليها رئيس الوزراء الشهير Winston Churchill? والذي حضر الحفل مع العديد من الشخصيات الرسمية ذوي المكانة المرموقة والمعتبرة. وخلال المأدُبة، تقدَّم أحد مساعدي رئيس الوزراء منه، وهمس في أذنه قائلاً: سيدي، لقدرأينا إحدي السيدات تسرق مَمْلحة فِضية وتضعها في حقيبة يدها. فهل لنا أن نفعل شيئًا؟! فأجاب رئيس الوزراء مساعده: اترك الأمر لي، فأنا سأهتم بالموضوع.توجه رئيس الوزراء إلي حيث تجلس السيدة بعد أن أخذ مَمْلحة أخري مماثلة ووضعها، ثم طلب إليها أن يتحدثا علي انفراد. وعندما أصبحا بعيدًا عن ضيوف الحفل أخرج Churchill المَمْلحة من جيبه، وقال للسيدة: سيدتي العزيزة، إني أخشي أن ما فعلناه قد صار معروفًا لدي الآخرين! فلا يوجد لنا حَل سوي أن نُعيد هاتين المَمْلحتين من حيث أخذناهما. وبالفعل، أُعيدت المَمْلحتان وانتهي الحدث بكل سلام وحكمة. ما أحكم ما صنعه هذا القائد الشهير! فمع أنه كان له كل الحق في إدانة تلك السيدة والتشهير بها، إلا أنه اهتم بها كإنسان يريد تصحيح مساره دون أن يفقده، فترك لها فرصة لتصحيح خطئها.?يقول الحكيم: “الحكيم عيناه في رأسه، أما الجاهل فيسلك في الظلام.” ويقول أيضًا: “من كالحكيم؟ ومن يفهم تفسير أمر؟ حكمة الإنسان تُنير وجهه، وصلابة وجهه تتغيّر.” فالحكيم يُدرك الأمور التي حوله، ويصبر ، ويستمع، ويدقق، حتي تكون لديه المعرفة الدقيقة لكل الأمور مِن حوله. فحينئذ يستطيع تدبر الأمور واتخاذ القرارات الصحيحة والتصرف المناسب فيما يواجهه من مواقف. وهذا ما حدث مع معلمة، في حين افتقده رئيس جامعة. ففي أول أيام العام الدراسي قالت المعلمة السيدة تومسون لتلاميذها في الصف الخامس جملة ترحيب لطيفة كما يفعل جميع المعلمين والمعلمات، قالت: إنني أحبكم جميعًا. ولكنها لم تكُن تشعر بصدق ما قالت تجاه أحد التلاميذ ويُدعي “تيدي ستودارد”. فقد لاحظت أن هذا الطفل لا يلعب مع زملائه من الأطفال، وأن ملابسه دائمًا متسخة، ويحتاج دائمًا إلي الاستحمام، بالإضافة إلي الكآبة التي تبدو علي مُحَيّاه. كانت تجد متعة في تصحيح أوراقه بقلم أحمر وتكتب عبارة: “راسب”!
?وفي أحد الأيام، وبينما كانت تراجع مِلفه، فوجئت بما كتبه معلم “تيدي” في الصف الأول الابتدائي: تيدي طفل ذكي، ويتمتع بروح مرحة. إنه يؤدي عمله بعناية واهتمام، وبطريقة منظمة. وكذلك يتمتع بدماثة الأخلاق . أمّا معلمه في الصف الثاني فقال: تيدي تلميذ نجيب، ومحبوب لدي زملائه في الصف، ولكنه منزعج وقلق بسبب مرض والدته، الذي جعل الحياة في المنزل شاقة ومتعبة . وفي الصف الثالث كُتب عنه: إن لوفاة والدته أثراً بالغاً فيه، لقد حاول الاجتهاد، وبذل مجهودًا كبيرًا، ولكن والده لم يكُن مهتما. وإن الحياة في منزله سرعان ما ستؤثر فيه إن لم تُتخذ بعض الإجراءات . بينما كتب عنه معلمه في الصف الرابع: تيدي تلميذ منطوٍ علي نفسه لا أصدقاء له، وليس لديه الرغبة في الدراسة، وفي بعض الأحيان ينام أثناء الدرس ! وهنا أدركت السيدة “تومسون” المشكلة، فقررت مساعدة الطفل.
وفي عيد الميلاد، أحضر لها تلاميذها هدايا عيد الميلاد ملفوفة بشكل جميل ماعدا تيدي؛ فقدكانت هديته ملفوفة بعدم انتظام، في ورق يُستخدم في بقالة. تألمت وهي تفتح هدية تيدي عندما انفجر بعض التلاميذ بالضحك حينما وجدت فيها عِقدًا تنقصه بعض الأحجار، وزجاجة عطر غير كاملة. ولكن ما كان منها إلا أنها عبَّرت عن إعجابها الشديد بجمال ذلك العِقد ثم لبِسته، ووضعت قطرات من العطر علي معصمها. في ذلك اليوم، انتظر “تيدي” مدرسته ليقول لها: إن رائحتكِ اليوم مثل رائحة والدتي!! لقد أحضر لها زجاجة عطر والدته؛ فقد وجد في معلمته الأم!!أوْلت السيدة “تومسون” اهتمامًا كبيرًا بتيدي؛ حتي بدأ عقله يستعيد نشاطه، وكلما شجعته ازدادت استجابته. وفي نهاية السنة الدراسية، أصبح تيدي تلميذًا متميزاً في الفصل، وأشدهم ذكاءً. وبعد مُضي عام كتب “تيدي” إلي معلمته يقول لها: أنتِ أفضل معلمة قابلتها في حياتي! وبعد مُضي ست سنوات كتب لها أنه أكمل المرحلة الثانوية بتفوق، وأنها حتي الآن ما زالت تحتل مكانة أفضل معلمة قابلها طول حياته. وبعد أربع سنوات أخري أرسل إليها خطاباً يقول فيه إن الدراسة أصبحت صعبة، وأنه مقيم في الكلية لا يبرحها، وأنه سوف يتخرج قريبا في الجامعة بدرجة الشرف الأولي، وأكد لها أنها أفضل معلم وأحبهم عنده حتي الآن. وفي خطاب آخر بعد أربع سنوات أخري، أوضح لها أنه حصِل علي درجة البكالوريوس، وقرر أن يستكمل دراسته، وأكد لها مرة أخري أنها أفضل معلم قابله طول حياته وأكثرهم حبا إلي قلبه، وكان توقيعه علي الخطاب دكتور ثيودور إف. ستودارد!! في ذلك الربيع أرسل يقول لها إنه يستعد للزواج. وطلب إليها أن تأتي لتجلس مكان والدته في حفل زواجه! ذهبت السيدة “تومسون” مرتدية العِقد نفسه الذي أهداها إياه في عيد الميلاد؛ متعطرة بالعطر نفسه. وفي الحفل قال د. ستودارد لمعلمته: أشكركِ علي ثقتك بي، وأنكِ جعلتيني أشعر بأنني مهم، وأنه يمكنني أن أكون بارزًا ومتميزًا. وأصبح لديه جَناح باسم “مركز “ستودارد لعلاج السرطان” الذي يُعد من مراكز العلاج ذات الكفاءة والشهرة الواسعة علي مستوي الولايات المتحدة الأمريكية. هذا هو الطبيب .. هذا هو “تيدي ستودارد” الطبيب الشهير الذي صار إلي هذا النجاح والتميز بسبب حكمة معلمته.وعلي النقيض من هذا كان رئيس إحدي الجامعات الذي …
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ