تحدثنا في المقالة السابقة عن استخدام بعض القادة الحكمة في المواقف التي اعترضت حياتهم فتأثرت حياة أشخاص ومجتمعات. واليوم نستكمل الحديث عن الحكمة في المواقف المختلفة.
يقول الحكيم: “… وقلب الحكيم يعرف الوقت والحكم.”؛ فالإنسان الحكيم يستطيع أن يُقَدِّر الأمور والمواقف بنحو صائب فتكون لكلماته وتصرفاته أثر شديد؛ بل قد تُحوِل المواقف والأشخاص الذين يعتقد البعض بفشلهم إلي نجاح لا نظير له؛ مثل ما رأينا مع والدة “توماس إديسون”، ومعلمة “تيدي ستودارد”، والقائد الحكيم البارز “تشرشل” رئيس وزراء بريطانيا.
وفي المقابل يقول الحكيم إن: “الجاهل يُظهر كل غيظه، والحكيم يُسَكِنه أخيرًا.” ويقول أيضًا: ” كنز مشتهًي وزيت في بيت الحكيم، أمّا الرجل الجاهل فيُتلفه.”؛ فبصبر الحكيم وهدوئه وتواضعه يفوز، في حين يخسَر الجاهل والمتصلِّف. وهذا ما حدث مع رئيس جامعة “هارفارد” عام 1884م، فبسبب عدم حكمته أفسد ما كان يُمكن أن يفوز به.
”الرئيس مشغول جدًا… وستنتظران كثيرًا”. كانت هذه كلمات مديرة مكتب رئيس “جامعة هارفارد” ببوسطن عندما فوجئت بزوجين يرتديان ملابس بسيطة يطلبان لقاء الرئيس دون موعد مسْبق. أجابت السيدة الريفية: سوف ننتظره.
انتظرا لساعات طويلة وكانت السكرتيرة تتمني أن يفقدا الأمل وينصرفا. ولكن هذا لم يحدث بل ازداد إصرارهما علي اللقاء. قررت السكرتيرة أن تطلب إلي رئيسها مقابلتهما لبضع دقائق حتي ينصرفا. وقد وافق باستياء وغضب شديدين؛ لأن من هم في مركزه لا وقت لديهم إلا لعلْية القوم، كما إنه يكره بشدة الفلاحين ذوي الثياب القطنية الرخيصة.
عندما دخل الزوجان مكتب الرئيس، أخبرته السيدة أن ابنهما كان يدرُس في “هارفارد” مدة عام لكنه تُوفيِِ في حادث، ولمحبته لهذه الجامعة قررا التبرع لها تخليدًا لاسم ابنهما. رد الرئيس بخشونة : سيدتي، لا يمكننا إقامة مبني تخليدًا لكل من يدرُس في “هارفارد” ثُم تُوفيِ وإلا أصبحت الجامعة نُصْبًا تذكاريًا!
أجابت السيدة بأنهما يرغبان في أن يهبا الجامعة مبنِيً يحمل اسم ابنهما. نظر الرئيس بغضب إلي ملابسهما القديمة وأجاب بسخرية: هل تعرفان تكلفة هذا المبني؟ لقد كلفتنا مباني الجامعة أكثر من سبعة ملايين ونصف المليون دولار!
صمت الوالدان، وشعِرَ الرئيس بالسعادة؛ فقد ظن أنه تخلص منهما الآن، إلا أن السيدة قالت لزوجها: سيد ستانفورد: إن كان هذا المبلغ هو تكلفة إنشاء جامعة كاملة، فلماذا لا ننشئ جامعة جديدة باسم ابننا؟!! فوافق الزوج علي الفور وغادر الزوجان “ليلند ستانفورد وجين ستانفورد” وسْط ذهول الرئيس وندمه. وهكذا في كاليفورنيا أسسا جامعة “ستانفورد” العريقة التي تحمل اسم عائلتهما وتُخلد ذكري ابنهما الذي لم يكُن يساوي شيئًا لرئيس جامعة “هارفارد”.
والحكيم إنسان عادل يدرُس الأمور بتأنٍ، فهذا هو الدرب الذي سار عليه رجال الله والحكام والقضاة الحكماء الذين عرفوا العدل واستخدموا الصبر والحكمة في المواقف التي مرت بهم.
أيضًا يقدِّم الكتاب إلينا أحد النماذج الفريدة في الحكمة وهو دانيال النبي الذي أنقذ “سوسَنَّة العفيفة” من الموت.
ففي أثناء سبي اليهود في بابل كان هناك رجل غني جدًا اسمه يواقيم متزوج من امرأة اسمها سوسَنَّة، وكانت جميلة جدًا وإنسانة تتقي الرب. كان ليواقيم حديقة ملحقة ببيته يجتمع فيها اليهود لديهم، وكان من هؤلاء المترددين شيخان قاضيان يأتيهما كل من له دعوي.
وكانت سوسَنَّة بعد انصراف الشعب تدخل وتتمشي في الحديقة. فرآها الشيخان فوقعا في هواها، ولكن لم يُحَدِّث أحدهما الآخر بهذا الأمر. وفي أحد الأيام، خرجا للانصراف وتفارقا ولكن عاد كل منهما مرة أخري، فاعترفا بهواهما لِسوسَنَّة واتفقا علي وقت يمكنهما فيه أن ينفردا بها.
وفي أحد الأيام، وبينما هما مترقبان، دخلت “سوسَنَّة” كعادتها ومعها جاريتان وأرادت أن تغتسل في الحديقة لأنه كان حر، وكان الشيخان مختبئين يترقبانها. ثم أرسلت الجاريتين لتُحضرا لها ما تحتاج إليه وأن تغلقا أبواب الحديقة لتغتسل.
وعند خروجهما قام الشيخان وهجما عليها، وهدداها بالشهادة عليها بأنه كان معها شاب ولذلك صرفت الجاريتين. تنهدت سوسَنَّة وهي لا تعلم ماذا تفعل! فإن هي أخطأَت فهذا يُعد شرًا أمام الله، وإن هي رفضت فلن تنجو من شرهما وكذبهما. واختارت ألا تفعل الشر أمام الله.
صرخت سوسَنَّة بصوت عظيم فصرخ الشيخان عليها!! وأسرع أحدهما بفتح أبواب الحديقة، فاجتمع الناس ليرَوا الأمر. اتهمها الشيخان بأنه كان معها شاب ولكنه هرب، فاقتادوها إلي المجمع؛ وهناك صدقوهما لأنهما شيخان وقاضيان وحكموا عليها بالموت. فصرخت إلي الله الذي استجاب لصوتها.
وبينما هي تُقاد إلي الموت، نبه الله دانيال فصرخ في الشعب أنه بريء من دم “سوسَنَّة”، فانتبه الشعب وسأل دانيال عن كلامه، فطلب إليهم أن يفحصوا ويتحققوا الأمر. فأسرع الجميع بالعودة إلي القضاء.
طلب دانيال أن يُفَرِّقا الشيخان، ثم سأل الأول عن الشجرة التي رأي سوسَنَّة والشاب تحتها، فقال: “الضَّرْوَة”. ثم أبعده وسأل الآخر أيضًا عن الشجرة، فقال: “السِّنديانة”! فظهر كذب الشيخين وقام الشعب عليهما وصنعوا بهما كما نوَيا أن يصنعا بسوسَنَّة.
وأيضًا قدم التاريخ الإسلامي حكمة القاضي “شريح” في تحقيق العدالة، فقد أراد الأمير الأُمَوي موسي بن عيسي ابن عم أمير المؤمنين المهدي شراء بستان تملكه امرأة مع إخوتها. واستطاع أن يشتري من إخوتها، أمَّا هي فقد رفضت. فأمر الأمير غِلمانه بإزالة حائط بين أرضَيهما فاختلط نخلها بنخل الأمير، فقدمت المرأة شكواها إلي للقاضي “شريح” الذي استدعي الأمير.
وصل كتاب القاضي إلي الأمير فكلف كبير الشرطة بالذهاب إلي القاضي بدلاً منه، وحاول كبير الشرطة الاستعفاء لمعرفته بالقاضي ولكنه فشل. وحين ما ذهب، أمر القاضي بحبسه. علِم الأمير فأرسل حاجبه – وهو مركز يوازي رئيس ديوان رئيس الجمهورية – فحبسه أيضًا. فأرسل هذه المرة أصدقاء القاضي نفسه فأودعهم السجن أيضًا. وحين ما علم الأمير قام بفتح السجن وإخراجهم بسلطانه.
عندما بلغ القاضي ما فعله الأمير قام بحكمته بتقديم استقالته وكتب فيها: والله ما طلبنا هذا الأمر منهم (منصب القضاء) وإنما لكن أكرَهونا عليه، ولكن ضمِّنوا لنا فيه الإعزاز إذا تقلدناه لهم. ثم قرر مغادرة مدينته.
عندما علِم الأمير لحِق بالقاضي الذي أصر علي عودة الجميع إلي السجن، أو يذهب إلي أمير المؤمنين يطلب إعفاءه من منصبه. فقام الأمير بإعادة المحبوسين. ثم جري اصطحاب الأمير إلي مجلس القضاء، وجاءت المرأة بشكواها، فأُُخرج المحبوسون وبدأت المحاكمة. أقر الأمير بما فعله، فحكم القاضي عليه برد ما أخذه من المرأة وبناء حائط آخر. وافق الأمير وانصرفت المرأة. وبعد المجلس قام القاضي وأجلس الأمير مكانه. فتعجب الأمير، ولكن القاضي أخبره أن عمله هو القضاء وإكرام الأمير! فعاد متعجبًا من حكمة القاضي وعدله.
وحقًا كلمات الكتاب: “فم الصدّيق يلهَج بالحكمة ولسانه ينطق بالحق.”.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ