تحدثنا في المقالة السابقة عن عدم حكمة رئيس جامعة “هارفارد” وتسرعه واللذان تسببا في خسارته، كما تحدثنا عن الحكمة والعدل عند رجال الله والقضاة الحكماء العادلين. واليوم نكمل الحديث عن حِكم ومواقف. يقول الكتاب: “الرجل الحكيم في عزّ، وذو المعرفة متشدد القوة.” ، كما يقول: “من كالحكيم؟ ومن يفهم تفسير أمر؟”؛ فالحكيم يستطيع بحكمته اتخاذ القرارات الصحيحة التي تكون سببًا في ازدهار بيته وعمله وكل ما تمتد إليه يداه. وذلك لأن قراراته نابعة من حكمة وُهبت له من الله – جل جلاله -، واستخدمها ونماها بالصبر والعمل والتعلم من الحياة وخبرتها؛ فصارت نهجًا يسير عليه كل أيام حياته محققًا نجاحًا يعقبه نجاح. وهنا أقدِّم قصتين إحداهما عن مدير شركة والأخري عن إمبراطور؛ كان لكل منهما القرار في الاختيار ، وكانت حكمة كل منهما هي التي أرست سفينتيهما علي شاطئ النجاح. القصة الأولي عن حكمة مدير، من أحد المديرين الذين كانت لهم حكمة شديدة في اختيار موظفي الشركة. فقد تقدم أحد الشباب المتفوقين علميًا لشغل وظيفة إدارية في شركة كبري. اجتاز الشاب الامتحانات واللقاءات التي عُقدت له، وتبقي له اللقاء النهائي والذي بعده يُتخذ القرار النهائي في شأن عمله. لاحظ مدير الشركة من خلال الاطلاع علي سيرة الشاب الذاتية أنه متفوق علميًا بدرجة كبيرة وبخاصة في المرحلتين الثانوية والجامعية. وحان موعد اللقاء، فسأل المدير الشابَ المتفوق: هل حصِلتَ علي أية منحة دراسية خلال تعليمك؟ فأجاب الشاب بالنفي؛ فهو لم يتلقَّ أي مِنَح طوال حياته. كان السؤال التالي للمدير: هل كان والدك هو الذي يسدد كل رسوم دراستك؟ فأجاب الشاب بأن والدته هي التي تكفلت بكل مصاريف دراسته؛ حيث إن والده تُوفي وهو في عامه الأول. سأله المدير عن عمل والدته، وأخبره الشاب أنها كانت تعمل في غسل الثياب. وهنا طلب المدير من الشاب أن يُريه كفَّيه فوجدهما ناعمتين ورقيقتين، فسأله: هل ساعدتَ والدتك في غسيل الملابس من قبل؟ أجاب الشاب: لم أساعدها قَط؛ فهي تحرص علي أن أتفرغ لاستذكار دروسي, بالإضافة إلي أنها تغسل أسرع مني! وهنا طلب المدير من الشاب أن يغسل يدَي والدته عند ما يعود إلي المنزل، ثم يعود للقائه صباح الغد.حين ما عاد الشاب إلي المنزل، طلب إلي والدته أن تدعه يغسل يديها، وأظهر لها تفاؤله بنَيل الوظيفة. ومع شعور الأم بالسعادة لتوظيف ابنها إلا أنها شعَرت بغرابة طلبه ولكنها مدت إليه يديها. وبينما يقوم الشاب بغسل يدَي أمه، بدأت دموعه تتساقط فقد كانت هذه هي المرة الأولي التي يري فيها مدي تجعُّد يديها، والكدمات التي كانت تؤلمها فتنتفض حين ما يلامسها الماء!! أدرك الشاب أن هاتين الكفين هما اللتان مكناه من استكمال دراسته، وأن الكدمات في يديها هي ثمن تخرُّجه وتفوُّقه العلمي ومستقبله. بعد الانتهاء من غسل يدَي والدته, قام في هدوء بغسل عنها كل ما تبقي من ملابس! وفي الصباح، توجه الشاب إلي مكتب مدير الشركة, فسأله المدير عما فعله، وماذا تعلم. فأجاب الشاب بأنه قد غسل يدَي والدته، وأنه قام عنها أيضًا بغسل كل الثياب المتبقية. فسأله المدير عن شعوره، فأجاب الشاب بأنه أدرك معني العرفان بالجميل, فلولا أمه وتضحيتها ما كان ليتفوق. وأضاف الشاب أنه حين ما قام عنها بعملها، أدرك مشقة العمل والجَهد المبذول. وعندها قال المدير: هذا ما كنتُ أبحث عنه في المدير الذي سأمنحه هذه الوظيفة: أن يكون شخصًا يقدِّر مساعدة الآخرين وعملهم، لقد تم توظيفك يا بُني! وأثبتت الأيامُ حكمة هذا المدير ؛ فقد قام الشاب بعمله بكل جَد ونشاط مقدِّرًا كل عمل يقوم به الآخرون، فحظِيَ باحترام ومحبة جميع مساعديه، وعمِل كل الموظفين بتفانٍ كفريق, وحققت الشركة نجاحًا باهرًا. أمّا الثانية عن حكمة إمبراطور عجوز كان يعيش في الشرق الأقصي، وجاء الوقت الذي أدرك فيه أنه يجب أن يختار من يَخلفه. قرر الإمبراطور أن لا يختار أحد مساعديه، أو أبنائه، أو قائد جيشه؛ فقد فكر في أن يقوم بعمل شيء مختلف. في أحد الأيام، قام الإمبراطور بدعوة كل شباب المملكة إلي قصره، وأخبرهم بأنه قد قد حان الوقت ليقرر اختيار الإمبراطور القادم. وأنه سيقوم باختيار واحد منهم. لم يصدق الشباب ما سمِعوه! واستمر الإمبراطور في حديثه معلِنًا أنه سوف يُعطي كل شخص بذرة واحدة خاصة جدًا يقوم بزراعتها ورَيّها ويعود إليه بعد عام بثمار هذه البذرة. وسوف يقوم هو بفحص ما سيُحضرونه، ثم سيختار الشخص الذي سيكون هو إمبراطور المملكة الجديد. كان من هؤلاء الشباب فتًي اسمه “لينج”، وقد استلم بذرة مثل أقرانه. ولما عاد إلي بيته أخبر أمه فرِحًا بكل ما حدث. فساعدته أمه بأن أعدت له مكانًا لزرع بذرته، وقام بالفعل بزرعها. اهتم “لينج” بزراعة البذرة ورَيّها، وكان يراقب نموها. بعد ثلاثة أسابيع، بدأ يسمع باقي الشباب يتكلمون عن بذارهم التي بدأت في النمو، أمّا هو فكان يعود إلي بيته كل يوم وينظر إلي الأصِيص، لكنه لم يشاهد أية بادرة نمو! مرت عدة أسابيع، بل ستة أشهر، والأمر علي ما هو عليه! يتحدث الآخرون عن نباتاتهم وهو لا يري أية نبتة، فشعَر بالإخفاق. لم يقُل “لينج” شيئًا لرفقائه الشباب، لكنه ظل يتابع بذرته وينتظرها أن تَنبُت. انقضي العام، وحل الموعد مع الإمبراطور لفحص الزرع. أخبر “لينج” والدته أنه لا يرغب في الذهاب حاملاً أصِيصًا فارغًا. لكنها شجعته أن يذهب، حاملًا أصِيصه ولو كان فارغًا، وأن يكون أمينًا وصادقًا في سرد ما حدث. أطاع “لينج” بألم شديد والدته، وحمل أصِيصه الفارغ ومضي إلي القصر. وهناك شاهد النباتات المتنوعة مع الشباب الآخرين، وكانت جميلة حقًا. وضع »لينج« أصِيصه علي الأرض فارغًا، فأخذ الكثيرون يضحكون عليه، ومنهم من رثَوا لحاله! وصل الإمبراطور، وحَيا الشباب مُبديًا إعجابه بالزروع، وقد تراجع “لينج” مُخفيًا نفسه ومنزويًا إلي آخر الصالة. قال الإمبراطور: اليوم واحد منكم سوف يُختار ليكون الإمبراطور القادم! وفجأة، لمح الإمبراطور الشابَّ “لينج” بأصِيصه الفارغ! فأمر الحراس أن يُحضروه قدامه. ارتعب “لينج”، وفكر أنها ستكون نهاية حياته! وحين ما وصل “لينج” قدام الإمبراطور، سأله عن اسمه. فأجاب: اسمي “لينج”. نظر الإمبراطور إلي “لينج” وأعلن: ها هو إمبراطوركم الجديد، واسمه “لينج”!! عقدت الدهشة ألسنة الجميع! فكيف يكون هو الإمبرطور وهو لم يُنمِ بذرته. أكمل الإمبراطور: مِن عام أعطيتُ كلاً منكم بذرة، وطلبتُ ذراعتها وإعادتها لي، لكني أعطيتُكم كلكم بذورًا مغليَّة لا يمكنها أن تنمو! وكلكم ـ ما عدا “لينج” ـ أحضرتم زروعًا؛ إذ حين ما وجدتم أن البذرة لم تنمُ، استبدلتم بها بذارًا أخري، أما “لينج” فهو الوحيد الذي كان لديه الشجاعة والأمانة والصدق ليُحضر أصِيصه فارغًا وبذرتي فيها. لذلك، سيكون هو الإمبراطور الجديد. ربما تكون القصة رمزية، إلا أنها تطابق كلمات الحكيم: “الحكيم عيناه في رأسه، أما الجاهل فيسلك في الظلام.”
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ