No Result
View All Result
ذكرنا أن الطريق إلى السلام الحقيقيّ الذي يتمتع به الإنسان أو المجتمع هو طريق يرسِمه العدل؛ وهٰكذا يصير العدل والسلام وجهين لعملة واحدة في الحياة. وأما الظلم فيظل تيارًا يجرُف في طريقه كل إمكانات السعادة والحياة.
يقولون: “قـد يـرى الناس الجُرح الـذي في رأسـك، ولٰكـنهم لا يشعـرون بالألـم الـذي تعانـيه”، ولكني أستطيع القول إن العدل يشعر بألم ذاك الذي ظُلم، فيسعى لرفع الظلم عنه. العدل ليس أن يرى الإنسان الظلم الواقع على الآخر فقط، بل إنه يأخذ خطوات أبعد، إنه يحاول أن يرفع هٰذا الظلم. بل نستطيع القول إنه عدل وأيضًا رحمة؛ أليست هٰذه هي الرحمة التي نادت بها الأديان: أن يسلك بها الإنسان في محاولة لرفع ألم أخيه الإنسان؟
يعتقد البعض أن العدل والرحمة طريقان متغايران، إلا أن الأمر في حقيقته ليس كذٰلك. فتحقيق العدل بين الناس هو قانون إلٰهي سماوي وضعه الله ليحفظ به تماسك المجتمعات وصلابتها. وهو لا يختلف ولا يغاير الرحمة التي طلبها الله أيضًا سلوكًا بين البشر.
إن العدل ينظر شزرا إلى من يظلم قائلًا: قِف! فلم يعُدْ هناك مكان لظلمك، وإن استمررتَ على غيك فعاقبة طريقك حتمًا موتك. ويقول للمظلوم مقتربا إليه في حُنو: اطمئن! أنا هنا لأرفع عنك ما وقع عليك من ظلم، ولأسترد لك حقك. والرحمة لا تختلف عن العدل في مسلكه هٰذا؛ فهي تقول للمظلوم: أبشِر! إنه جاء وقت افتقادك، وقد رُحمتَ من عذابك، كما تقول للظالم ناظرة إليه باستعطاف وإنذار وشفقة: قف! أنت تسير في طريق الدمار لنفسك قبل الآخرين!! فالرحمة ترحم الجميع ظَلَمةً ومظلومين. إن السائر في طريق العدل بأمانة وإخلاص هو يسلك أيضًا درب الرحمة بلا تفريق.
وكما أن العدل لا يتناقض والرحمة، هٰكذا أيضًا يحمل في طِيّاته الحرية والمساواة. إن المطلب الأساسيّ لكل من يحيا على وجه المسكونة هو أن يتمتع بحياة كريمة، حرة، ومساواة تحمل معها تكافؤ الفرص للجميع.
ولأن الحرية هي أهم ما يميز الإنسان، فإن العدل يرسِم الحدود الصحيحة السليمة لها بين الأفراد بعضهم تجاه بعض، لَئلا تُصبح الحرية وسيلة دمار؛ فقد قيل: “الحرية من غير قانون ليست سوى سيل مدمر!”.
فالحرية الحقيقة ليست هي هرب الإنسان من الالتزامات التي يحملها على كاهل ضميره، وإنما هي أن يختار ما هو أفضل له، ولمن حوله، ولوطنه، ويُلزم نفسه به. يقول الفيلسوف الفرنسي “مونتسكيو”: “الحرية هي الحق في أن تعمل ما يُبيحه القانون.” فحرية الإنسان يجب أن تُحترم، وأن يضمنها العدل لكل من يحيا على أرض. وفي الوقت نفسه، يجب أن يُدرك الإنسان أن: “الحرية والمسؤولية توأمان، إذا انفصلا يمُتْ كلاهما.” وهٰذه المسؤولية هي تجاه النفس والآخر والوطن.
جانب آخر في العدل هو المساواة وتكافؤ الفرص. فالممارسة الحقيقية للعدل هي أن يتمتع كل فرد بالمساواة في الحياة الكريمة، والمساواة أمام القانون وأيضًا في الحقوق والواجبات. وأيضًا أن تُمنح الفرص المتكافئة للجميع: فرصة التعليم، والرعاية الصحية، والتشجيع، والعمل بحسَب ما يتمتع به الشخص من كفاءة ومقدرة وامكانات.
إن العدالة تبني في المجتمعات الثقة، فالمجتمع الذي يُبنى على أسس العدل تجد أفراده ملتزمين، منظمين، يعملون بكل همة ونشاط؛ إذ أنهم يُدركون أن العدل هو مِظلة حياتهم شاعرين بالأمن والأمان من الظلم، ومدركين نتائج ما يفعله كل إنسان وعواقبه خيرًا كان أو شرًا. مِن دون العدل تُمتهن كرامة الإنسان وأمنه وشعوره بقيمة ما يُقدمه من عمل. لذا نجد أن كثيرين ممن لم يتمتعوا بالعدل في مجتمعاتهم انقلبوا من مظلومين إلى طغاة!!
أخيرًا، العدل هو ميزان الأمور الذي يضبط الرحمة، والحرية، والمساواة، وهو بطاقة الضمان لتحقيق إنسانية البشر وكرامة الأوطان ورقيها وقوتها وسلامها.
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ
No Result
View All Result