تحدثنا في المقالة السابقة عن »العدل« لغوياً، وعن ترادف »العدل« و»العدالة« اللذين هما أول مطالب الإنسان، وأول الفضائل الأربع التي نادي بها الفلاسفة قديماً، وكيف أن الأفكار الدينية التي اتبعها البشر قد اهتمت بإعلاء قيمة العدل، وأن في اليهودية والمسيحية والإسلام »العدل« هو صفة من صفات الله، فالله عادل وعدله مطلق.
وقد بدأنا القصة عن الأرملة الفقيرة التي أخذت تغزل لكي تبيع مغزول يديها وتُحضر الطعام لبناتها ولنفسها، وجاء طائر وانقض عليها وأخذ الخرقة وطار تاركها في حيرتها، إذ كيف ستطعم أطفالها الجياع؟!!
وبينما تستكمل المرأة سرد قصتها علي الحكيم، إذا بعشرة رجال تجار يأتون إلي الحكيم، كل منهم يقدم له مئة دينار طالبين أن يقدم المال إلي من يستحقه، فسألهم الحكيم عن قصتهم، وسبب تقديمهم المال. فقالوا: كنا في البحر نريد التجارة، وإذا بريح شديدة تعتري السفينة حتي كدنا نغرق. وبينما نحن نصارع الريح، ألقي علينا طائر خرقة حمراء بها غزل فأمكننا هذا من إصلاح عيب المركب، ونجونا بفضل الله، وقد نذر كل منا نذراً أن يتصدق بمئة دينار ويقدمه لرجل حكيم يهبه لمن يستحقه.
فالتفت الحكيم إلي المرأة قائلاً: أمازلت تشكين في عدل الله الذي أراد أن يرزقك أضعاف ما كنت تريدين؟! ثم أعطاها الألف دينار، وقال لها: أنفقيها علي أطفالك.
وهذا يذكرنا بقصة عدل الله مع مُردخاي في أيام الملك احشويروش عندما حاول بعثانا وترش خصيّا الملك أن يقتلا الملك، فعلم مردخاي وأبلغ أستير الملكة بالأمر. وفحص الأمر واتضحت صحته وعوقب الخائنون، وكُتب هذا الحدث في تاريخ الملوك ولكن نسي الجميع مردخاي وعمله في إنقاذ الملك.
وفي تلك الآونة، كان هناك رجل من بلاط الملك اسمه هامان عظم عند الملك جداً، إذ كان يخضع له الجميع إلا مردخاي مما جعل هامان يفكر في طريقة لقتله. وبالفعل أعد هامان لمردخاي خشبة ليموت عليها صلباً. وجاءت ليلة تنفيذ مخططه، وانتاب الملك أحشويرش أرق شديد، وبدأ يقرأ في أخبار الملوك، إلي أن قرأ قصة ما فعله مردخاي لإنقاذ حياته، وسأل عن مجازاته فقيل له إنه لم يُفعل له شيء.
فطلب الملك هامان وأمره بإكرام مردخاي لما فعله من خير لمولاه الملك، وقد كان في هذه اللحظة يستعد لأن يطلب إليه أن يقتل مردخاي! إلا أن الله قلب الأمور لخير مردخاي، فيعلم الملك بما كان يدبره هامان، وتنتهي القصة بموت هامان علي الخشبة عينها التي أعدها لموت مردخاي.. إنه عدل الله!!
والعدل يتضمن عدة عناصر، منها: الإنسان وحقوقه، وعلاقات الإنسان بمن حوله. ويقوم أي نظام اجتماعي ناجح علي العدل، فيقول الكتاب: »أزل الشرير من قدام الملك، فيُثبّت كرسيّه بالعدل«. ولذا متي رغب أي مجتمع في التقدم، فإنه يضع نصب عينيه تحقيق مزيد من العدل، إذ يجب إصلاح ما يناقض العدل في المجتمعات ليرتقي البشر.وحين ما يستخدم الإنسان العدل، يعترف بالآخرين في المجتمع وبحقوقهم ويحترمها. فالآخردائماً بالنسبة إليه هو شخص مساو له في الكرامة. ويقول أحد الكتاب: »لا يجوز أن يُضحي بحرية بعض الأفراد ـ في مجتمع ما ـ في سبيل تعزيز حرية غيرهم«. فكل أفراد المجتمع لهم الحقوق نفسها، وعليهم الواجبات نفسها، ويجب علي الجميع أن يحترموا حريات الآخرين، كما قيل: »إن حريتك تنتهي عند بدء حرية الآخر«.
قرأت قصة عن صديقين حميمين قضيا طفولتهما معاً في اللعب، ثم درسا معاً حتي انتهيا من دراستهما الجامعية في كلية القانون، بدأ كل منهما طريق الحياة ليعمل بنشاط وجدّ، وقد كان تقدم أحدهما في مهنته وترقيه بعد أعوام، أما الثاني فقد تعثر في طريقه وسقط فريسة الخمر والقمار، ولم تمر مدة وجيزة إلا وقد فقد كل شيء حتي وظيفته.
وفي أحد الأيام، ألقي رجال الأمن القبض علي الصديق الثاني الذي أهمل حياته ومستقبله وقد خالف النظام وكسر القوانين، إذ كانت تنتظره محاكمة أمام القضاء. وفي يوم المحاكمة، التقي الصديقان القديمان مرة ثانية، ولكن هذه المرة كان أحدهما متهماً والآخر قاضياً! فلقد تدرج ذلك الصديق في سُلم النجاح إلي أن صار قاضياً، وفجأة مر بذهن كل منهما شريط ذكريات الصبا والصداقة والمحبة، و… ونستكمل حوارنا الأسبوع القادم!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ