تحدثنا في المقالة السابقة عن عدل الله في مجازاة كل إنسان بحسب أعماله، وكيف أن الأديان جميعًا حثت البشر عمومًا على العدل ومن له السلطة خصوصا على الحكم بالعدل، وأن العدل ليس فقط هو لمن نودهم أو لمن نحن في سلام معهم وإنما هو أيضًا منهج حياة وسمات شخصية. إن العدل هو مع كل إنسان حتى إن خالفنا الرأي. كذٰلك يجب أن يكون العدل حقيقيًا؛ باطنيا قبل أن يكون ظاهريًا فلا يظلم إنسانًا آخر حتى لو كان ظلمًا نفسيًا لا يُعد جُرما أمام القوانين.
وأود أن أكتب اليوم عن ما أُسميه “العدل الإنساني”، ذٰلك العدل الذي يرعى إنسانية كل البشر ويُقدرها ويحترمها. وبحسب ما ذكر الشاعر “جُبران خليل جُبران” ـ في أبيات شعره التي نُشرت في المقالة السابقة ـ نجد أن العدل قد يكون شكليًا فقط أو قد ينفُذ على البعض دون غيرهم؛ حتى إن الأموات حين ما يسمعون بعدل الأحياء يضحكون منه ويستغربونه لأنه عدل غير حقيقيّ.
قدَّم الشاعر مثلًا لإنسان يستخدم مكيالين في الحكم؛ فالإنسان العادل لا يحمل ضميرًا متلونًا في حكمه يتغير بتغيُّر طالب العدالة؛ فإذا كان الفاعل فقيرًا ضعيفًا فالازدراء والإهمال نصيبه ـ وحتى إن نال عدلًا يكون بطيئا متوانيًا ـ والعدل البطيء نوع من الظلم أو قُل هو ظلم متخفٍّ ـ وأمّا إن كان من ذوي القدرة والسلطان فالاهتمام والإسراع بنواله العدل هو عين العدل! موسى النبي كليم الله عندما خاطب الشعب بوصايا الله قال في التوراة: “لاَ يَكُنْ لَكَ فِي كِيسِكَ أَوْزَانٌ مُخْتَلِفَةٌ كَبِيرَةٌ وَصَغِيرَةٌ. لاَ يَكُنْ لَكَ فِي بَيْتِكَ مَكَايِيلُ مُخْتَلِفَةٌ كَبِيرَةٌ وَصَغِيرَةٌ. وَزْنٌ صَحِيحٌ وَحَقٌّ يَكُونُ لَكَ، وَمِكْيَالٌ صَحِيحٌ وَحَقٌّ يَكُونُ لَكَ، لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلٰهُكَ. لأَنَّ كُلَّ مَنْ عَمِلَ ذلِكَ، كُلَّ مَنْ عَمِلَ غِشًّا، مَكْرُوهٌ لَدَى الرَّبِّ إِلٰهِكَ.”. فالله ـ جل جلاله ـ كلُّ غش مكروهٌ لديه، وإن كانت التعاملات التِّجارية اليومية بين البشر لا يقبل الغش فيها، فهل سيقبل هٰذا في الحكم والتعاملات الإنسانية بين البشر وهو الذي أوصى بالعدل؟!
وهنا تحضُرني قصة رواها لي الصديق العزيز والمعلم الكبير أ. د. حمدي زقزوق ـ الأمين العام لبيت العائلة المِصرية ـ في أحد اللقاءات ـ عن الخليفة العادل “عمر بن الخطاب”. فقد جاء إلى الخليفة ذات يوم رجل مصري يشتكي لديه والي مِصر عمرو بن العاص وابنه. فلما مثُل قدامه، قال إن ابن الوالي اعتدى عليه دون مبرر، وبدلًا من أن يَنصفه الوالي وضعه في السجن لئلا تصل شكواه إلى مسامع الخليفة، وأنه قد استطاع الهرب والحضور إليه لاجئًا ولائذًا بعَدله. فما كان من الخليفة إلا أن كتب يستدعي الوالي وابنه قائلًا: إذا أتاكَ كتابي هٰذا فلتحضُر إليَّ ومعك ابنك. ولما جاءاه، وتحقق من رواية الرجل المِصريّ، أعطاه عصاه وطلب منه أن يضرب ابن الوالي اقتصاصًا منه. وبعد أن فعل المِصري ذٰلك، أمره الخليفة أن يضرب الوالي أيضًا؛ لأنه لولا نفوذه ما استطاع ابنه أن يتجاسر بالاعتداء، ولٰكنّ المِصري اكتفى بضرب الابن. ثم وجَّه الخليفة كلمته الشهيرة إلى الوالي وابنه: “متى استعبدتم الناس وقد ولدَتهم أمهاتهم أحرارًا؟!”.
وحسنًا في العدل أن يعاقَب القاتل على فِعلته، ولكن يجب أن يعي الإنسان ويُدرك أن القتل ليس هو قتل الأجساد فقط، فهناك من يقتل كل يوم نفوسًا كثيرة بكلماته، وإساءاته، وتجاهله، دون أن يجد رادعًا أو شخصًا يوقفه عند حده. وهنا أتذكر عبارة من أكثر العبارات قوة تقول: “احترس، فإن الكلمات أيضًا تقتُل!”. وتمتلئ الحياة بكثير من الأمثلة التي توضح كيف أن كلمات قليلة لُفظ بها قد أحبطت مواهب عظيمة وقتلتها، بل إنسانية إنسان بأكملها قد حطمتها. وفي كلمات للمتنيح قداسة البابا شنوده الثالث، نجده يحذر فيها من الكلمات الجارحة، ويطلب من الإنسان أن يراجع نفسه دائمًا فيما قاله: “راجع نفسك، كم شخصٍ استخدمتَ معه هٰذا الأسلوب الصريح الجارح، فخسِرت كثيرًا بلا داعٍ، وأيضًا لم تربح نفوسهم للرب.”
والإنسان العادل أيضًا هو إنسان لا يُسرع بأحكامه، فهو لا يحكم بظاهر الأمور بل هو مستمع جيد إلى جميع الأطراف، ويفكر جيدًا في دوافع ومُلابسات الأمور ليصل إلى الحق دون إصدار أحكام قد تكون جائرة؛ إذ هي بحسب رؤية العين فقط؛ لا بإدراك العقل ولا برؤية ثاقبة للمَجريات. يقول الكتاب: “.. لاَ تَحْكُمُوا حَسَبَ الظَّاهِرِ بَلِ احْكُمُوا حُكْمًا عَادِلًا».”، فلا تُسرعْ بحكمك أو نقدك، فربما ـ بحسب ما ذكر البابا شنوده الثالث في كلماته: “ربما ينتقد الإنسان عن غير معرفة، وقد يُشرح له الأمور فيعتذر ويقول: ما كنتُ أعرف.”. و … ونستكمل الحديث الأسبوع القادم …
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ