No Result
View All Result
تحدثنا في المقالة السابقة عما أسمَيتُه “العدل الإنساني”؛ ذٰلك العدل الذي يرعى إنسانية كل البشر ويُقدرها ويحترمها. العدل الذي ليس له مكيالان، أو يسمح بجرح نفوس البشر. كذلك هو غير متسرع في الحكم؛ فهو طويل البال، متسع الأفق، يبحث عن الحق والحقيقة قبل أن يُصدر أحكامه.
والعادل أيضًا يسعى لتحقيق العدل لكل إنسان في المجتمع كله؛ وهٰذا ما يطلَق عليه “العدالة الاجتماعية”. وهناك عدة تعريفات للعدالة الاجتماعية تتفق معظمها على قواعد أساسية لمفهوم العدالة في المجتمع؛ منها حصول كل فرد على حقه، وأجور العاملين المتناسبة. ولٰكن أهم ما أود الإشارة إليه هنا هو العدل في تزويد كل إنسان بحاجاته الأساسية بدرجة متساوية ليحيا الإنسان في كرامته الإنسانية التي خلقه الله عليها.
وهٰذا ما نهَجته الأديان جميعًا بدعوتها إلى الاهتمام بالمحتاجين وتلبية متطلباتهم؛ ففي اليهودية والمسيحية نجد في التوراة أن الله يدعو بطريقة واضحة إلى الاهتمام بالفقراء والمساكين من الشعب؛ فنطالع قول موسى النبي عن رفض الله الظلم أو الإساءة إلى الفقراء: “لاَ تُسِيءْ إِلَى أَرْمَلَةٍ مَا وَلاَ يَتِيمٍ. إِنْ أَسَأْتَ إِلَيْهِ فَإِنِّي إِنْ صَرَخَ إِلَيَّ أَسْمَعُ صُرَاخَهُ ..” (سفر الخروج)، وعما يفعله الله حين ما يسمع صراخ المحتاجين من أجل طلبات أو حاجات: “فَيَحْمَى غَضَبِي وَأَقْتُلُكُمْ بِالسَّيْفِ، فَتَصِيرُ نِسَاؤُكُمْ أَرَامِلَ، وَأَوْلاَدُكُمْ يَتَامَى.” (سفر الخروج). ويطلب الله من الأغنياء أو ذوي المسؤولية أو أصحاب المعرفة أن يهتموا بالفقراء وألا يكونوا سببًا في زيادة آلامهم وفقرهم؛ فعندما يعوزهم شيء، فحينئذ على الإنسان أن يقدم إليهم عَوَزهم بلا ربا أو قسوة: “إِنْ أَقْرَضْتَ فِضَّةً لِشَعْبِي الْفَقِيرِ الَّذِي عِنْدَكَ فَلاَ تَكُنْ لَهُ كَالْمُرَابِي. لاَ تَضَعُوا عَلَيْهِ رِبًا. إِنِ ارْتَهَنْتَ ثَوْبَ صَاحِبِكَ فَإِلَى غُرُوبِ الشَّمْسِ تَرُدُّهُ لَهُ، لأَنَّهُ وَحْدَهُ غِطَاؤُهُ، هُوَ ثَوْبُهُ لِجِلْدِهِ، فِي مَاذَا يَنَامُ؟ فَيَكُونُ إِذَا صَرَخَ إِلَيَّ أَنِّي أَسْمَعُ، لأَنِّي رَؤُوفٌ. ” (سفر الخروج)
إن الله يهتم بطعام كل البشر وبالأخص الفقراء والمساكين؛ فطلب من الشعب أن يقدموا العُشر من كل ما يزرعون في الهيكل لكي يكون هناك طعام للمحتاجين والفقراء والمُعْوَزين: “هَاتُوا جَمِيعَ الْعُشُورِ إِلَى الْخَزْنَةِ لِيَكُونَ فِي بَيْتِي طَعَامٌ، وَجَرِّبُونِي بِهٰذا ..” (سفر ملاخي). وهٰذا العطاء المقدم إلى الفقراء بالقَطع هو سبب بركة وازدياد لهٰذا الإنسان فيقول الرب: “.. إِنْ كُنْتُ لاَ أَفْتَحُ لَكُمْ كُوَى السَّمَاوَاتِ، وَأَفِيضُ عَلَيْكُمْ بَرَكَةً حَتَّى لاَ تُوسَعَ. ” (سفر ملاخي).
أمّا في العهد الجديد، فنجد السيد المسيح يوضح أن الأعمال الخيَّرة التي يقوم بها الشخص هي سبيله إلى السماء؛ فقال: “ثُمَّ يَقُولُ الْمَلِكُ لِلَّذِينَ عَنْ يَمِينِهِ: تَعَالَوْا يَا مُبَارَكِي أَبِي، رِثُوا الْمَلَكُوتَ الْمُعَدَّ لَكُمْ مُنْذُ تَأْسِيسِ الْعَالَمِ. لِأَنِّي جُعْتُ فَأَطْعَمْتُمُونِي. عَطِشْتُ فَسَقَيْتُمُونِي. كُنْتُ غَرِيبًا فَآوَيْتُمُونِي. عُرْيَانًا فَكَسَوْتُمُونِي. مَرِيضًا فَزُرْتُمُونِي. مَحْبُوسًا فَأَتَيْتُمْ إِلَيَّ. فَيُجِيبُهُ الْأَبْرَارُ حِينَئِذٍ قَائِلِينَ: يَارَبُّ، مَتَى رَأَيْنَاكَ جَائِعًا فَأَطْعَمْنَاكَ، أَوْ عَطْشَانًا فَسَقَيْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ غَرِيبًا فَآوَيْنَاكَ، أَوْ عُرْيَانًا فَكَسَوْنَاكَ؟ وَمَتَى رَأَيْنَاكَ مَرِيضًا أَوْ مَحْبُوسًا فَأَتَيْنَا إِلَيْكَ؟ فَيُجِيبُ الْمَلِكُ وَيَقوُل لَهُمْ: الْحَقَّ أَقُولُ لَكُمْ: بِمَا أَنَّكُمْ فَعَلْتُمُوهُ بِأَحَدِ إِخْوَتِي هؤُلاَءِ الْأَصَاغِرِ، فَبِي فَعَلْتُمْ.” (الإنجيل بحسب متى). ويقدِّم يعقوب الرسول إلينا صورة المؤمن الحقيقي الذي يُظهر إيمانه بأعماله فيقول: “إِنْ كَانَ أَخٌ وَأُخْتٌ عُرْيَانَيْنِ وَمُعْتَازَيْنِ لِلْقُوتِ الْيَوْمِيِّ، فَقَالَ لَهُمَا أَحَدُكُمُ: «اِمْضِيَا بِسَلاَمٍ، اِسْتَدْفِئَا وَاشْبَعَا»، وَلٰكِنْ لَمْ تُعْطُوهُمَا حَاجَاتِ الْجَسَدِ، فَمَا الْمَنْفَعَةُ؟!” (رسالة يعقوب). فالإيمان المجرد من عمل الصلاح تجاه الآخرين لهُوَ دليل على أن هٰذا الإيمان ميت.
كذٰلك حث الإسلام على الاهتمام بالفقراء والمساكين؛ في تحذيره أن مصير من لم يُطعم المِسكين هو إلى النار؛ وذٰلك لأنهم: {قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ} (سورة المُدَّثر)، وأنه لا يكفي الإنسان أن يُطعم المِسكين، بل يجب أن يدعو الآخرين إلى إطعامهم أيضًا؛ وإلا صار غير صادق في إيمانه {أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ فَذٰلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (سورة الماعون)؛ بل إن عدم حضه على طعام المسكين قد يكون سببًا في هلاكه: {خُذُوهُ فَغُلُّوهُ ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ} (سورة الحاقة). وأيضًا يطلب الاهتمام باليتيم والمِسكين فيقول: {كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا} (سورة الفجر).
ومن ثم يتضح جليًّا مدى اهتمام الأديان وحثها على حفظ الحياة الكريمة لكل إنسان يحيا في المجتمع. وعلى هٰذا أصبح من الضروري أن تهتم الدولة بتوفير الضرورات الأساسية من أجل الحياة الإنسانية الكريمة لأفراد شعبها كافة.ونستكمل حديثنا الأسبوع القادم …
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ
No Result
View All Result