تحدثنا في المقالات السابقة عن الكرم الماديّ وكرم الخلق. وقدمنا نماذج لأنفس عظيمة، كان سر عظمتها في إطلالها علي حاجات الآخرين، وتقديم يد العون إلي كل من تلقاه. إنها أنفس انطلقت من سجن الذات إلي حرية الاهتمام بالإنسان واحترام إنسانيته.
وتمتلئ صفحات التاريخ بنماذج مشرقة عاشت لتقدم وتهب لكل من تعرف؛ فحُفرت أسماؤهم في ذاكرة التاريخ ونُقشت في قلوب البشر. ونحن مع بدايات عام جديد واقتراب عيد الميلاد، نقدم الشخصية الحقيقية لمن عرَفه العالم أجمع باسم “بابا نويل”، وهي شخصية الأسقف “نِيقُولاوُس / نِيقُولاس” أسقف “مورا”.
كانت “مورا” أو “ميرا” مدينة يونانية في آسيا الصغري (الآن مدينة من “ليكيا” في جنوب تركيا). واشتُهر “أسقفها نِيقُولاوُس” من صغره بمحبته وإسراعه بتقديم المساعدات والإحسان إلي كل محتاج؛ فحياته كانت تكريسًا لمعني العطاء للفقراء، والمساكين، والضعفاء، والأطفال، والمهمَّشين، والمنبوذين؛ مقدمًا إلي الجميع عطاءً ماديًا ومعنويًا في محبة فائقة؛ محاولًا أن يرسُِم الابتسامة علي وجه كل من يلقاه ويعامله؛ وبخاصة الأطفال واليتامي والأرامل. ويذكر البعض أنه كان أيضًا يدافع عن كل مظلوم.
ومن أهم القصص التي تُذكر عن عطاء “الأسقف نِيقُولاوُس” أنه سمِع عن رجل غنيّ بالمدينة فقدَ كل ثروته وممتلكاته؛ حتي إنه صار في عَوَز شديد إلي القوت الضروريّ. وكان لهذا الرجل ثلاث بنات لم يستطِع أن يزوجهن لعدم قدرته وسوء أحواله المادية. وإذ قست الأيام وأحْنَت علي هذه الأسرة وزاد عَوَزهم، هيّأ الشيطان للأب أنه لا حل لمشكلاتهم إلا بأن يُرسل بناته إلي العمل في مجال الرذيلة والسوء! وما أن علِم “الأسقف نيقولاوُس” بنيَّة ذاك الأب حتي قرر أن يسارع إلي مساعدة تلك الأسرة.
انتظر الأسقف حتي أسدل الليل ستاره، وأخذ مائة دينار واضعًا إياها في كيس، وتسلل دون أن يشعر به أحد حتي وصل إلي منزل الرجل. ثم ألقي كيس المال من نافذة الرجل. وفي صباح اليوم التالي، وجد الرجل المال ففرِح فرحًا عظيمًا جدًا، وزوَّج بالمال ابنته الكبري.
وفي مرة أخري، كرر “الأسقف نِيقُولاوس” الأمر وألقي بكيس ثانٍ من نافذة المنزل ليلًا دون أيضًا أن يلحظه أحد؛ وبذلك استطاع الرجل أن يزوج ابنته الثانية. وكان الرجل يتساءل في كل مرة عن شخصية ذلك الخيِّر الخفيّ، واشتاق كثيرًا أن يعرفه؛ فقرر أن يظل ساهرًا يترقبه. وجاء الوقت الذي شعر فيه بسقوط كيس المال من النافذة، فأسرع إلي خارج المنزل ليكتشف أن “الأسقف نِيقُولاوُس” هو من يمتلك هذا القلب الطيب الشفوق وذاك الكرم النادر الوجود. وهنا لم يسَع الرجل إلا أن يشكره كثيرًا إذ أنقذ أسرته من الفقر، وبناته من الوقوع في براثن الشر والخطيئة. أمّا الأب الأسقف فلم يقبل شكرًا بل طلب من كل الأسرة أن يقدموا الشكر لله.
لقد كان “الأسقف نِيقُولاوُس” كريمًا مع كل من التقاه في حياته، مقدمًا عطاءه دون انتظار لأنْ يُطلب إليه. وبالرغم من سعيه ورغبته في أن لا يعرف أهل بلدته بما يصنع إليهم من خير؛ إلا أن كرمه جعل العالم كله يعرفه، ويظل شخصية لا تعرف معني الموت في قلوب البشر وعقولهم؛ تحيا عبر العصور، يتذكرها الجميع مع كل عام جديد وهم يَخطُون علي الدرب الذي صار عليه متعلمين منه معاني الكرم والعطاء والخفاء.
إن “الأسقف نِيقُولاوُس” هو أحد نماذج الكرم والعطاء الحقيقية التي يمتلئ بها التاريخ، نماذج عاشت حياتها واضعة علي عاتقها أن تحيا من أجل إسعاد الإنسانية بكرم خلقها وعطائها. وما زلنا نفتش في كنوز التاريخ، فللكرم علامات وعلامات أضاءت الطريق للعالم. و … وللحديث بقية …
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ