تحدثنا في المقالة السابقة عن كرم شخصية “نيقولاوُس” أسقف “مورا” الذي خلَّده عطاؤه وكرم أخلاقه. واليوم نتحدث عن شخصيتين أُخريَين خالدتين في فكر وقلوب البشر لأجل كرمهما. يذكرهما لنا التاريخ كلؤلؤتين كريمتين؛ هما: المُعلِّم “إبراهيم الجوهريّ”، والخليفة “عثمان بن عفان”.
عاش المعلم “إبراهيم الجوهري” في القرن الثامن عشر الميلاديّ، وكان من أبوين فقيرين إلا أنهما كانا تقيَّين كريمَين. وكان “إبراهيم الجوهريّ” يُتقن فنَّي الكتابة والحساب، واشتُهر بنسخ الكتب الدينية علي نفقته الخاصة. ومع عدم وفرة المال عند “إبراهيم” الجوهريّ” إلا أن ذلك لم يكُن عائقًا عن أن يُعطي منذ صغره؛ فقد قدم إلي الآخرين بكل ما لديه من إمكانات ومواهب. ومن يقدم مما وهبه الله يُعطَي ويُزاد، ويبارك له الله في كل أمور حياته.
التحق “إبراهيم” بوظيفة “كاتب” لأحد أمراء المماليك، ثم ألحقه “علي بك الكبير” بخدمته حتي تقلد رئاسة كُتاب القطر المِصريّ، وهي من أرفع الوظائف الحكومية، وتعادل رتبة رئاسة الوَزارة!.. ومع سمو هذه المرتبة الرفيعة، ازداد “إبراهيم الجوهري” تواضعًا وكرمًا دون أن يُميز بين مسلم ومسيحيّ؛ حتي أحبه الجميع، ونال محبة “إبراهيم بك” الذي أَولاه ثقة عظيمة.. وقال عنه أنبا يوساب الشهير بابن الأَبَحّ أسقف جرجا وأخميم: “كان من أكابر أهل زمانه، وكان محبًا لله، يوزع كل ما يقتنيه علي الفقراء والمساكين، مهتمًا بعمارة الكنائس. وكان محبًا لجميع الطوائف. يُسالم الكل، ويحب الجميع، ويقضي حوائج الكافة، ولا يُميز واحدًا عن الآخر في قضاء الحق”.
وقد كان سريع الإحسان حتي لمن يُسيئون له أو لأحد من معارفه، ولا عجب؛ فقد أيقن أن المحبة والكرم والعطاء قادرة علي أن تحول الشر إلي خير. ففي أحد الأيام جاء إليه أخوه المُعلِّم “جرجس الجوهريّ” يشكو إليه مَن أهانه بينما هو سائر في الطريق، وطلب منه أن يستخدم سلطانه حياله. فما كان من المعلم “إبراهيم الجوهري” إلا أن أجابه قائلا إنه سيقطع لسانه! وفي اليوم التالي، بينما يسير أخوه في الطريق الذي يلقي فيه الإهانة، إذا به يجد من أهانه يُكرمه ويستقبله بكل ترحاب! فتعجب قاصدًا أخاه ليعرِف سر تغيره. وعندما سأله عن سر التحول وما فعله حياله حتي تبدلت معاملته، أجابه بأنه أرسل إليه عطايا وخيرات قطعت لسانه عن الشر! لقد أدرك المعلم “إبراهيم الجوهري” أن كرم العطاء والأخلاق يكمُنان في أن تُقدم من القليل الذي لديك فيزداد، وأن تقدم للجميع حتي من يعادونك؛ فتصنع سلامًا، وتزرع بُذور المحبة في العالم مِن حولك.
لؤلؤة ثانية من لآليء التاريخ توهجَت بكرمها علي نوعَيه الماديّ والخُلقي؛ هو الخليفة “عثمان بن عفان” الذي قيل عنه إنه كان كريمًا في شيئين: المال، والروح. فقد ذُكر عنه أنه كان يعتق العبيد حتي وصل عدد من أعتقهم الي ألفين وأربع مائة رقبة تقريبًا. ويُحكي أيضًا عن الخليفة الكريم؛ أنه حدث في زمان أبي بكر الصِّديق أن مرت شدة بالناس بسبب جفاف المطر، وسمِع الناس بأن “عثمان بن عفان” وصله طعام في قوافل تجارته. ولما ذهبوا إليه، سألوا أن يشتروا الطعام لكي يقدموه إلي الفقراء. فما كان منه إلا أن قدَّم الطعام صدقة علي المساكين. وفي أحد الأيام، اشتري بئر ماء كان صاحبها يبيع ماءه ولم يقدر بعض الفقراء علي دفع ثمنه، ثم جعلها بئرًا تروي الجميع بغير ثمن!.. وفي كرمه هذا الذي كان يبذُِله من ماله وخُلقه نال محبة شديدة من الناس؛ حتي إنه يومًا ما عفا عن شخص أراد قتله عندما أتاه من ضمنه! و… وللحديث بقية …
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ