تحدثنا في المقالة السابقة عن التأثير القوي للكلمة الطيبة في النفس البشرية وفي تغيير سلوك الانسان.
يقول الكتاب: “الجواب اللين يصرف الغضب، والكلام الموجع يهيج السخط” فكم من كلمات طيبة امتصت غضبا عظيما يكاد ان يدمر! وكم من كلمات اخري قادت الي الدمار!! ان الكلمة الطيبة ليست عملا واحدا منفردا في الحياة، بل هي تقود الي مزيد من الكلمات الطيبة والخير لتصبح دائرة لا تنتهي من المحبة بين البشر، واعظم ما في الكلمات الطيبة انها تغير الآخرين وتصرف الغضب الذي يدمر كل ما هو جميل في الانسان.
وتتفق الاديان جميعا علي قوة الكلمة الطيبة في زرعها السلام بين البشر علي النقيض من الكلمات القاسية الموجعة التي تزيد من سخط الانسان ونقمته، يحكي عن القديس مقاريوس الكبير انه كان ذاهبا من برية “صحراء” الاسقيط الي جبل نثيرا فطلب من تلميذه ان يسبقه، وفي الطريق رأي التلميذ كاهنا وثنيا يحمل بعض الخطب ويركض بسرعة، فقال له: يا خادم الشيطان! الي اين انت تجري؟ اغتاظ الكاهن من كلمات التلميذ الجارحة له، فألقي بالحطب وضربه حتي تركه بين حي وميت، ثم اكمل مسيرة ، ثم لاقي القديس مقاريوس الذي رأي همة الرجل وتعبه، فقال له: لتصحبك المعونة يا رجل النشاط! تأثر الكاهن الوثني بكلمات القديس الطيبة الرقيقة الصادرة من قلب محب وسأله: ما هو الشيء الصالح الذي رأيته فيّ حتي قدمت الي التحية والكلمات الطيبة؟ اجابه القديس: رأيتك تكد وتتعب- وان كنت لا تدري لماذا، اجاب الكاهن الوثني: لقد تأثرت بتحيتك، علي عكس شخص شرير لقيني ولعنني فضربته ضرب الموت، وهكذا بكلمات المحبة انجذب الوثني وتغير الي محبة الله، وكان القديس دائما يقول: “ان الكلمات الشريرة المملوءة كبرياء تحول الاخيار الي اشرار. ولكن الكلام الطيب المتواضع يحول الاشرار الي ابرار”. وفي التاريخ الاسلامي نسمع انه كان لعبد الله بن الزبير مزرعة في المدينة جوار مزرعة يمتلكها معاوية بن ابي سفيان وحدث في ذات يوم، ان دخل عمال مزرعة معاوية الي مزرعة ابن الزبير دون الاذن لهم، فعرف ابن الزبير وغضب- اذ كان هناك بينهما بعض الخلاف- وقرر ان يكتب الي معاوية في دمشق رسالة بهذا الامر فقال: من عبدالله بن الزبير الي معاوية، اما بعد، فإن عمالك دخلوا الي مزرعتي فمرهم بالخروج منها او ليكونن لي معك شأن اخر! وصلت الرسالة بهذه الكلمات العنيفة الي معاوية فقرأها ثم قال لابنه “يزيد”: ما رأيك في ابن الزبير، ارسل لي يهددني ؟ اجابه “يزيد”: ارسل اليه جيشا عظيما تكون مقدمته عنده ونهايته عندك ليحاربه ويأتيك برأسه! ولكن معاوية كتب رسالة الي ابن الزبير يقول فيها: من معاوية بن اي سفيان الي عبدالله بن الزيير، اما بعد، فو الله لو كانت الدنيا بيني وبينك لسلمتها اليك، ولو كانت مزرعتي من المدينة الي دمشق لدفعتها اليك، وعند وصول كتابي هذا اليك خذ مزرعتي الي مزرعتك وعمالي الي عمالك، فان جنة الله عرضها السماوات والارض، فلما قرأ ابن الزبير الرسالة بكي ! وسافر الي معاوية في دمشق وقبل رأسه !! ان الكلمات الطيبة تزيل ما في النفوس من خلاف او ضيق او كراهية وتزرع السلام والمحبة.
وعن الكلمات الطيبة يطول الحديث، الا ان اهم ما في الكلمات الطيبة ان اثرها يظل عالقا في اذهان وقلوب وحياة من يوهب لهم، وحين نقدمها نكون قد تركنا اثارا لا تمحي من الحياة، واختم بهذه الكلمات: “لا ارغب في تحريك الجبال، او بناء الانصاب التذكارية، او ترك اثار مادية تقول انني كنت احيا، ولكن، ان كانت ذكري وجودي ترسم ابتسامة علي الوجوه وبهجة في القلوب، فبذلك اكون قد تركت اعظم اثر علي وجودي في الحياة!”.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ