تحدثنا في المقالة السابقة عن لؤلؤتين كريمتين: المُعلِّم “إبراهيم الجوهريّ”، والخليفة “عثمان بن عفان”، اللذين كانا سخيَّين في أموالهما، وكريمين في أخلاقهما فأحبهما الناس. واليوم أتحدث عن كرم الإنسان في الوقت؛ يقول نيلسون مانديلا: “يجب علينا أن نستخدم الوقت بحكمة، وأن نُدرك أنه قد آن الأوان لنفعل ما هو صحيح.”. إن الإنسان الكريم لا يتوقف عطاؤه علي المال فقط، بل يمتد أيضًا إلي ما يقدمه من وقت لمساعدة الآخرين ولإسعادهم. فيُعد كريمًا كل من يهب من وقته لمن يحتاج؛ فيساعد شخصًا في قضاء أمر ما، أو في عمل، أو يعلم ويثقف، أو في حل مشكلة. وفي كثير من الأحيان يفوق عطاء الوقت كثيرًا من الأموال، ولا يمكن تقديره بثمن. قرأتُ هذه القصة عن الرئيس الأمريكي “دوايت ديڤيد آيزنهاور” (1890-1969م) الذي قال: “إن كل بندقية تُصنع، وكل سفينة حربية تُدشَّن، وكل صاروخ يُطلق هو سَِرِْقة للقمة العيش من فم الجياع ومن أجساد الذين يرتجفون من شدة البرد ويحتاجون إلي الكِساء”. قام ” آيزنهاور” بزيارة مدينة دِنڤِر في أثناء فترة رئاسته، وكان يسكن بها طفل صغير لا يتخطي السادسة يُسمي “بول دونالد هالي”؛ كان يُعاني من مرض السرطان الذي كان قد وصل مرحلته الأخيرة وقت زيارة الرئيس. وذات يوم تحدث الطفل إلي أبيه معبِّرًا عن أمنية تراود خياله فقال: أبي، إني أحب الرئيس جدًّا، وأشتاق أن أراه؛ حتي إن كان هذا من بعيد! فكيف يُمكنني تحقيق هذا؟ ابتسم الأب لطفله الصغير، وضمه إليه والدموع تملأ عينيه حَُزَْنًا علي طفله الذي يعيش أيامه الأخيرة، ثم قال له: اُكتُب للرئيس أنك تشتاق أن تراه. وبالفعل كتب الطفل “بول” رسالة للرئيس يذكر فيها أحواله وما يمر به من مرض؛ ثم ختم كلماته بأنه يشتاق أن يراه. وما أن وصل الخطاب إلي الرئيس “آيزنهاور” حتي تأثر به جدًّا. وفي صباح يوم الأحد التالي، طلب من سائق سيارته أن يذهب به إلي حيث يقطُن الطفل. وقد كانت المفاجأة كبيرة للأب عندما وجد الرئيس أمامه علي باب منزله يسأل عن “بول” طالبًا أن يراه. ارتبك الرجل جدًّا إذ لم يتوقع زيارة رئيس الجمهورية له. فأدرك الرئيس مشاعر الرجل وقال له في ابتسامة لطيفة: أعتذر لعدم اتصالي بك لأحدد موعدًا للزيارة، لكنني حضرتُ لألتقي الطفل العزيز “بول”. حيّا الرئيس الطفل مبتسمًا وقال له: لقد عرفتُ أنك تشتاق أن تراني، وأنا أيضًا أشتاق أن أراك! لذا قررتُ الحضور إليك. ثم أمسك الرئيس بيد “بول” وأخذه إلي حيث تقف سيارته لكي يري عربة الرئيس، وتحادثا حديثًا وديًّا استأذن بعده الرئيس للانصراف بعد أن عاد بالطفل إلي مسكنه وغادر. كان قلب “بول” يحمل سعادة غامرة واعتزازًا بزيارة الرئيس له؛ فقال لأبيه: إنه قد جاء من أجلي! إنه يحبني ويشتاق أن يراني! لقد قدَّم الرئيس “آيزنهاور” إلي الطفل “بول” بعضًا من وقته الثمين لإسعاده؛ فزيارته للطفل الذي “اشتاق أن يراه” لا تُقدر بخزائن الكَون بأسره بالنسبة إلي الطفل! وهكذا أيضًا بالنسبة إلي كثيرين قد يكونون في حاجة إلي بعض من وقتك؛ فقدِّمه بكرم إلي من يحتاجه. يقولون: “إن الوقت المفقود لا نجده مرة أخري”.
ويقولون أيضًا: “إن الوقت هو أكثر شيء نرغب في الحصول عليه ونطلبه، ولكنه أسوأ ما نستخدمه في حياتنا”. لذا لا تسمح بأن يكون هناك وقت مفقود لديك، واستثمِره لمصلحة الآخرين وخيرهم فتكون سببًا في إسعادهم، وحينئذ ستكون قد أدركتَ كيف تحيا الوقت الذي وُهب لك. والله يجازيك خيرًا عن كل عمل تقوم به برحابة قلب وكرم للآخرين. وللحديث بقية …
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ