يقول تشرشل: «النقد قد لا يكون محبَّبـًا للنفس، لٰكنه ضروريّ لأنه يؤدي وظيفة الألم نفسها في جسم الإنسان، وينبهنا لوجود أمر غير صحيّ.». لقد تحدثنا في المقالة السابقة عن أن الشخص الذي يتقبل النقد لديه آفاق واسعة تمكنه من إدارك فوائده؛ وأن الفصل بين النقد وشخص قائله يساعد علي الاستفادة من تلك الكلمات. وعرَضنا للنقد الموضوعيّ الذي يساعد علي البناء والتطور. وهناك أيضـًا النقد الهدام.
يمكننا تعريف النقد الهدام بأنه كل نقد لا يبني الآخر، بل علي النقيض يحاول تحطيمه، وهنا أتوقف قليلـًا: ليس كل نقد هدام هو إظهار عيوب إنسان ما، بل هناك نوع أكثر خطورة في هدم الآخر وهو إخفاء عيوب عمله أو التصرف عنه في محاولة لإيهامه بأن كل ما يفعله هو صائب، ثم يقال له: «ليس في الإمكان أبدع مما كان.»! إن هٰذا يُعد نوعـًا من النقد الآخذ قناع المدح، ويُطلق عليه اسم النقد المقنَّع أو المدح الزائف لهو أشد خطورة من النقد المباشر المركِّز في السلبيات فقط، إنه يُعد من أسهل الوسائل وأقربها الي تحطيم الشخص! ولذا فالمدح الذي لا يتوقف والذم الذي لا ينتهي هما وجهان لعملة واحدة تسمي «هدم الآخر».
قد يستغرب البعض كلماتي أن المدح الذي لا يتوقف هو نوع من هدم شخصية الإنسان. ولٰكن، دعونا نري الأمر بمنطقية وواقعية: هل يقوم كل إنسان بتحسين عمله أو أفكاره عندما تكون بلا عيب؟! إن من لا يري العيوب والنقائص في عمله، لن يحاول تطويره وتحقيق نجاحات أكبر وإنجازات أعظم؛ وهٰكذا يأخذ في التوقف عن النمو والتقدم شيئـًا فشيئـًا فيتراجع الي الوراء! إن إحدي القواعد الأساسية للحياة هي التغير والتجدد، إذ إن البشر لا يتوقفون أو يتجمدون عند مَِحطات معينة في الحياة، وإلا لفقدوا الحياة نفسها! يا صديقي، ليس كل مدح هو علامة للمحبة، بل ربما بعض الكلمات الصادقة البسيطة التي لا تخلو من ملاحظات عن سلبيات موجود فيك تكون أعمق محبةً وخوفـًا عليك من تلك التي تُهادنك وتزمر لك وأنت مخطئ! وهنا تقفز الي ذهني صورة ذٰلك الملك العجوز الذي أراد يتخلي عن حكم بلاده لبناته الثلاث، فقرر أن يكون تقسيم المملكة وَفقـًا لجودة تعبير كل ابنة عن محبتها إليه بالكلمات، فمن ستُطربه كلماتها بالأكثر سيكون لها من المملكة النصيب الأكبر. وتبارت الابنتان الكبري والوسطي في إظهار كلمات الحب والمدح غير الصادقة نحو الأب، في حين أرادت الابنة الصغري، التي تحمل حبـًّا عظيمـًا لأبيها، أن تقدم كلماتها في مصداقية وبساطة، ولٰكن، ويا للأسف، كانت غير مقبولة لديه، ورفضها وجاءت النتيجة الضياع والدمار! إنها قصة الملك «لير» إحدي روائع الكاتب الإنجليزي «شكسبير».
أمّا النوع الآخر الذي ينتبه لها الآخرون مباشرةً وبوضوح، فهو النقد الذي يذكر العيوب أو الأخطاء. والنقد الهدام له سمات واضحة، فنراه يتحدث عن الشخص لا عن الفعل أو الموقف؛ كذٰلك يكون جارحـًا الي حد كبير لا يراعي فيه مشاعر الإنسان المنتقَد، وهو أيضـًا يخلو من الإيجابيات في محاولة للتقليل من قيمة العمل، وغالبـًا ما يقدم صاحب هٰذا النقد كلماته الي الآخر أمام الناس في افتضاح لأمره وهو ما يسبب له الإحراج، وفي بعض الأحيان يتمادي به الي التشهير!! لذٰلك علي الإنسان الذي توجَّه إليه كلمات النقد الهدام بوجهيه أن يتريث قليلـًا، ويفكر، ويُنصت جيدًا، ويبحث عن الحقيقة في أعماقه، إذ لا يعرِف الإنسانَ إلا روحُ الإنسان نفسه، وكذٰلك الأصدقاء المخلصون الحميميون الذين هم بالحق يعرفونه حق المعرفة ويحبونه. وتذكر، عزيزي: «النقد مثل المطر: ينبغي أن يكون كافيـًا ليغذي نمو الإنسان، دون أن يدمره.».
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ