في ظل مسيرتنا عبر دروب الحياة، نلقى مشكلات ومواجهات قد تعطل المسيرة فترات، أو تغير اتجاهنا إلى آخر. ولٰكن ما أصعب أن يواجه الإنسان ما يُشاع عنه أنه “لا يُقهر” ليجد نفسه في مواجهة أعظم التحديات!
“الخط الذي لا يُقهر” .. عبارة ترددت كثيرًا على لسان العدو، بل على ألسنة العارفين والخبراء. إلا أن تاريخ مِصر الذي استلمه المصري من أجداده في كِيانه وتغلل في عروقه عبر آلاف السنين ـ مع هول مصاعبه وكوارثه أحيانًا كثيرة التي قد يحنى تحت وطأتها الظهر ـ قد علَّمه أنه أيضًا “المِصري الذي لا يُقهر”! صانع تاريخه وحضارته التي ينهَل منها كل العالم. وفي ذكرى انتصارات أكتوبر المجيدة، يتمثل أمام أعيننا عبقرية الجنديّ المِصريّ وشجاعته وإخلاصه المتفاني؛ وهو يتحدى أقوى خط دفاعيّ عرَفه التاريخ الحديث.
كان خط بارليف يهدِف إلى تأمين الجيش الإسرائيليّ الذي احتل شبه جزيرة سيناء في الخامس من يونيو 1967م؛ باقتراح من رئيس الأركان الإسرائيليّ ـ في ذٰلك الوقت ـ “حاييم بارليف”.
وبالفعل قامت إسرائيل بإنشاء هٰذا الخط بتكلفة تقترب من 500 مليون دولار آنذاك! وقد روجت إسرائيل طويلًا له وأطلقت عليه لقب “الخط الذي لا يُقهر”، وأن عبوره هو درب من المستحيل بل هو المستحيل بعينه. وكثيرًا ما كان يتردد أن هٰذا الخط أقوى من خط “ماچينوه” الذي قام ببنائه الفرنسيون في الحرب العالمية لوقف تقدم القوات الألمانية.
يبدأ خط “بارليف” من قناة السويس في عمق 12 كيلومترًا داخل شبه جزيرة سيناء؛ على امتداد ضفة القناة الشرقية. وقد تميز بساتر ترابيّ ارتفاعه من 18 – 22 مترًا، وبه 20 نقطة حصينة؛ في كل منها نحو 15 جنديًا تتلخص مهامهم في الإبلاغ عن أية محاولة لعبور القناة. وكانت قاعدته تحتوي على أنابيب تصب في قناة السويس لتُشعل سطحها بوقود النابالم لحظة أية محاولة للعبور. وهٰكذا بات العبور دربًا من المستحيل.
ولكنْ المِصريّ ـ كعادته ـ هو قاهر المستحيلات؛ فبدأ يقتَرّ ما حفرته الأيام على صفحات تاريخه العريق من بسالة وشجاعة في مواجهة المستحيلات أيًا كان عددها أو كيفها!!
فقد كانت مهمة عبور قناة السويس صعبة إلى أقصى درجة؛ وقد يكون ثمنها العمر ـ عمر شعب بأكمله بل وكرامته ـ لأن القناة قد تتحول في أية لحظة إلى بحيرة من النيران تقضي على كل من فيها، ناهيك باقتحام الساتر الترابيّ الذي يشبه مبنًى ضخمًا من ستة أدوار.
وتتوالى ذكريات اليوم المجيد لترسم صورة المقاتل المصري وهو يعبر أصعب مانع مائيّ حاملًا علم بلاده، ومحطمًا بعزيمته أسطورة “الخط الذي لا يُقهر”، ليضع بدلها صورة “المِصريّ الذي لا يُقهر”.
فبحسب ما يذكر أحد أبطال العبور العظيم أن حسابات دقيقة جدًّا قد أُجريت للتعامل إزاء هٰذه الدفاعات المحصَّنة. ولذا نجد أن في أكتوبر العظيم قامت مجموعات بالعبور لإغلاق مواسير النابالم، وتم الاستيلاء علي مستودعات المواد الملتهبة سليمة، بل قد أُسر الضابط الاسرائيليّ الذي قام بتصميمها!
أما بالنسبة إلى الساتر الترابيّ، فقد قام المهندسون العسكريون الأفذاذ ـ بفكر مِصريّ عبقريّ خالص ماركة “صنع في مِصر” ـ من: إزالة 3 ملايين متر مكعب تقريبًا من ترابه عن طريق ضخ مياه بضغط عالٍ في خراطيم لتشق وتخترق الساتر الترابيّ صانعة عشرات الثُغرات، ثم إقامة عشرات الجسور ليعبر عليها وِِِحدات الجيش الثقيلة، ليتم كل هٰذا في أقل من 6 ساعات من بداية المعركة فقط!!
ومن الأسطورة المِصرية التي أبهر بها جيش مِصر العظيم العالم أجمع، نستطيع أن نستقي كثيرًا من الدروس لنا جميعًا اليوم؛ وأهم درس أنه لا وجود لما يوصف بأنه “لا يٌقهر”؛ فأمام: العزيمة الصادقة، والإخلاص الجاد، والتنظيم والتنفيذ الدقيق، تتهاوى كل دعاوى الاستحالة.
لقد وضع جنودنا البُسَلاء وقياداتهم هدفًا واحدًا صوب أعينهم، وظلوا يعملون لتحقيقه سنوات على أسس علمية دقيقة؛ بكل أمانة ودقة وإخلاص وحب لهٰذا البلد العظيم الأصيل، وتحقق لهم ما سعَوا إليه.
وإن كنا غدًا نُعيِّد بتَذكار هٰذا النصر العظيم بكل الفخر، فإننا إنما نذكر دور قواتنا المسلحة المجيد ـ على مر تاريخها ـ في العمل الوطنيّ أيضًا من أجل رفعة الوطن وحريته وكرامته، وانحيازها الدائم إلى شعبها الأبٍيّ بقيادة قائدها العام الوطنيّ الشجاع السيد الفريق الأول “محمد عبد الفتاح السيسي”؛ لِما حمله على عاتقه من إعلاء مصلحة الوطن وتحقيق رغبة الشعب فوق كل غاية؛ متخذًا القرارات الحازمة الحاسمة في اللحظات الفارقة من عمر الوطن.
إن أكتوبر المجيد يحمل دعوة إلى كل مِصريّ بأن العمل والبناء من أجل مِصر قد آن؛ لكي تستعيد مِصرنا أمجادها ـ أمجاد “المِصري الذي لا يٌقهر”.
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ