يحتفل مَسيحيُّو الشرق بعيد «القيامة». والقيامة، يا إخوتي، هي حقيقة الحياة فيما بعد الموت، التي ينتقل فيها الإنسان من حياة علي الأرض تتسم بالأتعاب والضيقات والألم، إلي حياة أخري لا تنتهي، أبدية، إنما قد انتهت فيها وانتفت منها الآلام والأحزان إلي غير رجعة؛ لأن السماء لا تعرف الألم أو الحزن أو الضيق. وهكذا أصبحت القيامة قوة محركة للإنسان في طريق الحياة ليسعي نحو تلك السعادة التي ينشُدها.
وإن كان الإنسان يبحث عن الراحة والسعادة في الأبدية، فيجب عليه أن يسلك بحكمة في هذا العالم، تلك الحكمة التي تقوده إلي الحُكم علي أمور الحياة بأُسلوب صائب. فالقيامة تضع دائمـًا أمام أعيننا حقيقة أن الحياة رحلة قصيرة ستنتهي حتمـًا يومـًا ما، وأننا راحلون لا محالة. ومن ثَم، علينا أن نخطط ونعمل من أجل أبديتنا. وكما نعلَم، فإن أعمال الإنسان هي رفيقه الوحيد إلي السماء؛ فإن كانت أفعاله خيرا، رسمت له طريق السعادة الأبدية، وإن كانت شرًا، حصد معها الألم إلي الأبد! ومن هنا، أصبح تذكُّر الإنسان للقيامة هو كإنذار له، ليتنبه دائمـًا لأن اختياراته هي المحدد لمصيره الأبديّ، ويُدرك أن سبيله في الحياة إلي تلك الحياة المزمَعة الدائمة هو أن يسلُك في أعمال المحبة والرحمة والعدل، وأن يكون الدافع إلي تقديم هذه الأعمال هو محبته لله الذي وهب له نعمة الحياة وائتمنه عليها. وهكذا، تصير أيامه وسِنوه كشجرة مثمرة تمنح ثمارها للمارِّين بها، فتظلل عليهم في أوقات التعب، وتساندهم في طريق حياتهم.
القيامة والمحبة
وثَمّة عَلاقة وثيقة بين القيامة وحياة الإنسان في المحبة؛ فكما ذكر القديس «بولس الرسول»: «أما الآن: فيَثبُت الإيمان والرجاء والمحبة، هذه الثلاثة ولكن أعظمهن المحبة.». إن كان الإنسان يعيش علي الرجاء في هذه الحياة، بأن آلامه واحتماله وصبره سيعوضه الله عنها خيرًا في السماء، فإن المحبة التي يعيشها في العالم هي مِفتاح الطريق إلي السعادة الأبدية. فالإنسان حين يقدِّم محبة صادقة مخلصة إلي أخيه في البشر والإنسانية، نجده: يَُعضُِّده، يسانده، يشارك في رفع الأتعاب والآلام عنه، صائرًا سر فرح لكل من يلتقيه في الحياة! وفيما هو يقدِّم محبة، يجد أصداء تعبه واحتماله وعمله في الحياة، وأيضـًا في نهاية رحلته. وهكذا تبدأ المحبة علي الأرض، وتتقدم صاحبها محامية عنه أمام الله لتتحدث عنه.
القيامة والفرح
أيضـًا ترتبط الحياة في السماء بالفرح الدائم، فكل حزن وتعب لن يكون لهما مكان عندما يقوم الإنسان إلي الحياة الأبدية. سيفرح الإنسان لأنه سيلتقي الله شهوة حبه الأولي، القدير المحب الذي ساعده وعضَّده في كل أمور حياته كأب حقيقيّ؛ الذي كان موضع اتكاله طوال أيامه. ويفرح أيضـًا لأنه سيحيا مع كل الأنفس البارة التي عرفها، وتلك التي سمع عنها فقط، التي ستتعرف إليه في الأبدية. ومن أسرار سعادة الإنسان في القيامة، أنه سيعيش حياة تخلو من الشر والظلم والحروب؛ فيعرِِف معني السلام الحقيقيّ الذي لا يمكن أن يُنزع منه. سيفرح الإنسان لأنه جاهد في حياته وتعِب واحتمل وعاش في حياة شكر ورضا، وآن الأوان لأنْ تُكلَّل أتعابه بالراحة. فالطالب الذي يتعب ويستذكر دروسه ويقوم بواجباته دون تقصير أو ملل، يشعر بالفرح والسعادة حين يتفوق في الامتحان الذي يؤديه. وهكذا الحياة امتحان يعبر بالحياة إلي الحياة! وقد أعجبتني مقولة: «إن الحياة عبارة عن ورقة امتحان، فركز في ورقتك قبل أن تُسحب منك.»!
إن تذكُّر القيامة، يا أحبائي، يولِّد في أعماق الإنسان الخيِّر كل هدوء وسلام وفرح، وتكون إنذارًا لمن يسلُك في الشر بأن يتراجع عن شره، مقدِّمـًا تَوبة، سالكًا في طريق الخير.