أهنئ إخوتنا المسلمين في “مِصر” والعالم العربيّ والعالم أجمع بـ”عيد الفطر”، طالبًا إلى الله أن يمنح الجميع كل فرح وسلام، مصليًا من أجل سلام “مِصر” ورخائها وأمنها.
تحدثنا في المقالة السابقة عن ترْك الإنسان لله: الذي يُعد انفصالًا عن واهب الحياة نفسه ومصدرها، والذي هو كإلقاء الإنسان بنفسه وسْط أمواج الحياة المتلاطمة ليحيا في دائرة من القلق والتوتر والضياع، بعيدًا عن الهُدوء والسلام! كذٰلك فإن التخلي عن الله ابتعاد عن السعادة الحقيقية.
نوع آخر من الترْك السلبيّ في حياة الإنسان هو أن يترك أسرته: الوالدَين، أو الزوجة، أو الأبناء. إلا أن هٰذا النوع من الترك يُُعد ضربًا من ضُروب تنازل الإنسان عن دَوره في الحياة. وحين يتنازل الإنسان ويبتعد عن مسؤوليته، فهو بلا شك ينحرف عن الطريق والرسالة التي أؤتُمن عليها. إنه في الحياة، يختار كل إنسان طريقه الذي يريد أن يرتاده، وعليه أن يعي أن كل طريق من طرق الحياة يحمل أتعابًا وآلامًا وأفراحًا، وأنه فيه يَلقَى مسؤوليات وعليه أن يتحملها ويعمل بأمانة في ذٰلك الطريق حتى يتممها إلى آخر سطر من رسالة وجوده. أما من يُلقي بمسؤولياته مُعرضًا عنها، فإنه لن يصل إلى أي مرفإ آمن في رحلته.
وقد اهتمت جميع الأديان بإبراز أهمية عَلاقة الإنسان بوالديه، ففي الكتاب: “أَكْرِمْ أَبَاكَ وَأُمَّكَ لِكَيْ تَطُولَ أَيَّامُكَ عَلَى الأَرْضِ الَّتِي يُعْطِيكَ الرَّبُّ إِلهُكَ”؛ وفي القرآن: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا﴾. كذٰلك فإن الأديان تنهَى الإنسان عن إساءة معاملة الوالدين، فيحذر الكتاب: “وَمَنْ ضَرَبَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ يُقْتَلُ قَتْلاً … وَمَنْ شَتَمَ أَبَاهُ أَوْ أُمَّهُ يُقْتَلُ قَتْلاً”، ويوصي القرآن: ﴿وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا﴾؛ فرعاية الوالدين والاهتمام بهما ومحاولة إسعادهما تُعد إحدى المسؤوليات الكبيرة الملقاة على عاتق كل ابن وابنة، وسوف يُسأل البنون ويحاسبون عنها أمام الله في اليوم الأخير.
كذٰلك هناك دَور لكل إنسان تجاه أسرته نحو شريك الحياة والأبناء، وترْك هٰذا الدَّور أو التخلي عنه أمر لا تقبله المبادئ أو القيم ليست الدينية فحسب بل الإنسانية كلها. إن الإنسان الذي يترك أفراد أسرته يُسرع بهم وبحياته نحو الدمار! كذٰلك لا يَخفَى أن قوة الأسرة تكمن في أداء كل فرد لدَوره بإخلاص نحو باقي أسرته، وفي طاقة الحب التي يقدمها كل فرد فيها نحو الآخر، إذ إنها تماثل تلك السلسلة القوية التي تتكون من حلقات متشابكة معًا بقوة يصعب كسرها، وعلى العكس تضعف وتنفرط بيسر وسهولة عندما يرتخي تشابكها أو تُفقد إحدى حلقاتها. والأسرة هي إحدى المسؤوليات التي سيحاسَب الإنسان عنها، وعما قدَّمه أو ما يجب أن يقدِّمه لبنائها ولم يفعل.
لذٰلك: لا تبحث عزيزي الإنسان عن طرق للفرار من مسؤوليات وُضعت على عاتقك، واضعًا في مخيلتك أنه طريق الراحة والسعادة! لا توجد راحة مع الترك والتخلي عن مسؤوليات الحياة، بل ما يصنع العظماء هو قدرتهم على تحدي ما يعترضهم من عوائق بصبر وحكمة، دون تخلٍّ عن مبادئ الحياة.
وللحديث بقية …
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ