تحدثنا في المقالة السابقة عن أهمية استعداد الإنسان كمبدأ له في الحياة، وأن أحد هٰذه الاستعدادات يكون في مواجهة صعاب الحياة، والعمل على تخطيها وإيجاد الحلول مما يساعد الشخص في النمو والارتقاء في الحياة. وأيضـًا أن يكون الشخص مستعدًّا لأنْ يكون شخصـًا متميزًا في ما يقدمه ويعمله أثناء حياته من خلال إيمانه بما يعمل وثقته بنفسه.
ونستكمل بعض الجوانب الأخرى في الحياة التي يجب على الإنسان أن يكون مستعدًّا فيها؛ وأحدها أن يكون مستعدًّا على تحمل التغيرات التي تطرأ على ما يمر به من ظروف في مسيرة الحياة. إن الأحداث التي تمر بالإنسان لا تكون ثابتة أو على وتيرة واحدة، بل هي أقرب إلى التغير والتنوع والتبدل منها إلى الاستقرار والثبات؛ ومن هنا كانت أهمية استعداد الإنسان على تحمل المتغيرات التي يتعرض لها، بل تدريب نفسه على أن تكون له المرونة اللازمة في الحياة. ومن خلال هٰذه المرونة، يمكنك تقبَّل الواقع، بل أن تغيِّره وأنت تسير؛ لأنه كما يقولون: “الشخص المرن يعرف كيف يفكر بطريقة مختلفة؛ فإذا فكر بطريقة لا توصله إلى الطريق الذى يريده، فإنه يفكر بطريقة مختلفة حتى يصل ويحقق ما يريد.”. وهٰكذا استعداد الإنسان يَزيد من مرونته، وتلك المرونة هي التي تجعل الشخص أكثر قوة وأقدر على النجاح في دُروب الحياة.
والاستعداد لتحمل الاختلاف لا يكون في تلك الظروف التي تتبدل وتتغير فقط، بل أيضـًا في احتمال الاختلاف مع الآخرين، دون أن يفقد محبته لهم أو معاملاته بود وإنسانية. لذٰلك، من الأمور الهامة في الحياة أيضـًا أن تكون مستعدًّا لتحمل الاختلاف مع الآخرين، فالبشر ليسوا جميعـًا فكرًا واحدًا أو طبيعة متشابهة في الخير أو الشر، بل هم يتنوعون، وعلى الإنسان الناجح في الحياة ذي المبادئ الكريمة أن يتقبل مثل هٰذا الاختلاف، وأن يبحث عن القواعد الإنسانية المشتركة التي تربِط الجميع في وَحدة ومحبة وعمل من أجل خير الإنسانية كلها.
يقول “ڤولتير” فيلسوف الثورة الفرنسية: “إنني قد لا أتفق معك فيما تقول؛ ولٰكنني على استعداد لأن أضحي بحياتي دفاعـًا عن حقك في أن تقوله”! فالمعاملات الإنسانية يجب أن تبتعد عن إطار الاتفاق أو عدمه: تُعامل الشخص بأسلوب إنسانيّ وآدميّ، إن كان متفقـًا معك فقط، ثم يأتي الاختلاف فيتحول إلى نوع من العداوة! إننا يا صديقي جميعنا بشر من أب واحد هو آدم، أي إننا جميعـًا أفراد عائلة واحدة في الإنسانية، قد نتنوع، ويتميز كل شخص بصفات ومواهب تختلف عن الآخر، إلا أن هٰذا التنوع هو من أجل التكامل لا التشاحن، للبناء معـًا لا الهدم والتدمير.
إن رحلة الحياة بما تحمله من قيم ومبادئ هي دعوة إلى أن يكتسب الإنسان مزيدًا من القدرات، وأن يتدرب على تحقيق ذاته دون أن يحطم الآخرين أو يتجنبهم في طريق الحياة، بل على النقيض أن يتعلم كيف يكون متأهبـًا ومستعدًّا من أجل الوصول إلى خط النهاية معـًا. ولن تغيب عن ذاكرتي قصة سباق أولمبياد “سياتل” للمعاقين، حيث كان المتنافسون تسعة معاقين. وبدأ السباق. وبينما هم يجرون، انزلق أحد المشاركين وسقط على الأرض وبدأ في البكاء! سمِع صوت بكائه الثمانية الآخرون، فأخذوا يُبطؤون جميعـًا ناظرين إليه حتى توقفوا عن الركض، ثم عادوا إليه جميعهم. وما إن وجد المتسابق زملاء رحلة الحياة حوله، حتى توقف بكاؤه! إذ لم يعُد هو وحده في الطريق. ونهَض الجميع، ومشَوا جنبـًا إلى جنب نحو خط النهاية، ليصلوا جميعهم معـًا إليه. إنها الحياة التي لا تُعد سباقـًا وله فائز واحد فحسْب، إنما هي تحمل أعماقـًا أخرى: أن يفوز فيها الجميع، مشددين بعضهم أيدي بعض.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُُرثوذكسيّ