No Result
View All Result
تحدثنا في المقالة السابقة عن الفساد في معناه اللُّغويّ، وتعريفه، وموقف الأديان منه، مع طرح سؤال عن سبب اتجاه بعض البشر إليه، لتتضمن الإجابات مفاهيم تدل على افتقار الإنسان إلى الثقة بنفسه وبالآخرين، مع فقدان الرؤية لحياته.
وبالبحث عن تاريخ معرفة الإنسان بالفساد، وجدتُ أن أول ذِكر لكلمة “فساد” جاء في “العهد القديم” في توراة “موسى”: “وَفَسَدَتِ الأَرْضُ أَمَامَ اللهِ، وَامْتَلأَتِ الأَرْضُ ظُلْمًا. … إِذْ كَانَ كُلُّ بَشَرٍ قَدْ أَفْسَدَ طَرِيقَهُ عَلَى الأَرْضِ.”؛ حيث ارتبطت الكلمة بشعب الأرض في أيام “نوح”. وقد تنامى هٰذا الفساد إلى درجة أن الله أرسل طوفانـًا من السماء ليمحو به كل كائن حيّ على وجه الأرض! ويلاحَظ في هٰذه الكلمات أن الأمر الذي أفسد الأرض أمام الله ـ جل جلاله ـ كان هو امتلاءها بالظلم. ومن هنا نُدرك أن هناك ارتباطـًا كبيرًا بين “الظلم” الذي يصنعه الإنسان وبين “الفساد” الذي يصل إليه نتيجة هٰذا الظلم، والنتيجة المؤكَّدة هي الانهيار والدمار.
ومن هنا اعتبر بعض الناس أن الفساد هو تعدٍّ على حقوق إنسان أو الدولة، مَثله مَثل الظلم الذي يَحرم البشر من حقوقهم أو يميِّز بعضهم من بعض دون وجه حق. ومن الطبيعيّ أن تكون النتائج هي تفشي الفوضى والاستبداد اللذين يؤديان إلى ضعف المجتمعات وتفككها. وقد اهتمت الأديان بتوضيح رفض الله للظلم والظالمين، وحثه للإنسان على الابتعاد عنه، وفي المقابل مراعاة العدل بين البشر؛ فنجد “داود النبيّ” يقول: “الرَّبُّ يَمْتَحِنُ الْصِّدِّيقَ، أَمَّا الشِّرِّيرُ وَمُحِبُّ الظُّلْمِ فَتُبْغِضُهُ نَفْسُهُ.”، ومكتوب: “وَلاَ تَظْلِمُوا الأَرْمَلَةَ وَلاَ الْيَتِيمَ وَلاَ الْغَرِيبَ وَلاَ الْفَقِيرَ، وَلاَ يُفَكِّرْ أَحَدٌ مِنْكُمْ شَرًّا عَلَى أَخِيهِ فِي قَلْبِكُمْ.”. وفي الكتاب: «لاَ تَظْلِمُوا أَحَدًا، وَلاَ تَشُوا بِأَحَدٍ، وَاكْتَفُوا بِعَلاَئِفِكُمْ».“، “وَأَمَّا الظَّالِمُ فَسَينَالُ مَا ظَلَمَ بِهِ، وَلَيْسَ مُحَابَاةٌ.”. وفي القرآن: ﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللهُ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ﴾، ﴿وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ﴾.
وحين يتعرض الإنسان للظلم، فإنه يشعر بافتقار شديد إلى الثقة بنفسه وبالآخرين وهو ما يحوله إلى: إمّا شخص عنيف يحاول الحصول على حقه بالقوة، وإمّا إنسان سلبيّ ينزوي عن الحياة والمجتمع؛ وفي كلتا الحالتين يحدث في أعماق هٰذا الإنسان انكسار للقيم والمبادئ التي يحياها التي تنعكس بشدة على المجتمع.
أنواع الفساد
هناك عدة أنواع من الفساد يتصدى لها الإنسان، منها ذو المعنى البسيط الماديّ المباشر وهو “فساد الجسد”: إذ يتعرض الإنسان للموت وانفصال روحه عن جسده فيتحلل ويَفسَد؛ فكل إنسان يعتريه الموت يرى هٰذا النوع من الفساد. وهناك أيضـًا الفساد، أيِ الاضطراب والخلل اللذان يحدثان لبعض خلايا الجسم وأنسجته فيؤثران على أداء بعض الوظائف في جسم الإنسان.
إلا أنه هناك أنواع أخرى من الفساد مثل الفساد الروحيّ: أي انغماس الإنسان في الشر والخطيئة والبعد عن الخير والصلاح؛ فحين يتخلى الإنسان عن حياة البر والتقوى، والمحبة، والعدل، والرحمة، ليحيا في شر وظلم وحسد، فهو يحيا في فساد روحيّ. ونرى فساد الأرواح واضحـًا في قصة “نوح” حين اتجه الناس إلى فعل الشر بكثرة، حتى أمر الله بالطوفان الذي اكتسح وجه المسكونة كلها؛ ولا يوجد علاج لهٰذا النوع من الفساد إلا بأن يُدرك الإنسان خطأ أعماله، ويقدم توبته إلى الله، ويغيّر من سلوك الشر إلى الخير، فالتوبة هي الطريق الملوكيّ الذي حول كثيرين من طريق الموت إلى الحياة.
وللحديث بقية،،،
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ
No Result
View All Result