حينما تتردد كلمة «السلام»، يُستحضر إلي العقل البشريّ إحدي صورتين: الأولي صورة للبعد عن الحرب التي لا تترك وراءها سوي الموت والدمار، والأخري لتلك الحالة من الهدوء والاستقرار اللذين يشتاق الإنسان إلي تحقيقهما داخل أعماقه وفي حياته. وفي كلتا الصورتين نجد الإنسان يعيش لاهثـًا في سعي لا ينضُب، وجُهد لا يتوقف؛ للوصول إلي إرساء هذا السلام. فالذي عاش ويلات الحرب يُدرِك تمامـًا أهمية السلام. ومن اجتاحت أعماقه مشاعر وأحاسيس عدم الراحة وازدادت همومه، يُدرك حاجته الملحة إلي السكينة والسلام. وبينما يمتلئ العالم الآن بالمتاعب، والمشكلات، والكوارث، تتزايد حاجة الجميع إلي الشعور بالسلام.
و«السلام» أمر نادت بالسعي له الأديان؛ ففي التوراة: «اُطلب السلامة واسعَ وراءها»، وفي الإنجيل: «طوبي لصانعي السلام..»، وفي الحديث: «اُفشوا السلام بينكم». لذلك، فإن تحقيق السلام بين البشر هو أمر مهم في حياتهم، عليهم أن يعملوا علي تحقيقه ونشره بينهم والمحافظة عليه في حياتهم.
وهنا يتردد التساؤل: كيف يمكن تحقيق السلام؟ وهنا أتوقف عند سؤال آخر للمهاتما «غاندي»، الذي قيل عنه «الزعيم الذي قاوم الإمبراطورية البريطانية ونالت بلاده الحرية دون أن يطلق رَصاصة واحدة»: «لماذا نغير العالم، إذا كنا نستطيع أن نغير أنفسنا؟!».
بدايةً أود أن أؤكد أن السلام لا يعني اختفاء الاختلاف بين البشر، أو تنازل شخص أمام آخر، إنما هو السمو عن حل الاختلافات بالقوة، والقدرة علي الوصول إلي قواعد إنسانية مشتركة لإيجاد حل لها. ومن الكلمات الجميلة في هذا: «السلام لا يعني غياب الصراعات، فالاختلاف سيستمر في الوجود. السلام يعني أن نحل هذه الاختلافات بوسائل سلمية عن طريق: الحوار، التعليم، المعرفة، الطرق الإنسانية.». فليس معني السلام أن تتنازل عن أفكارك أو معتقداتك أو ما لك من حقوق، إنما أن نتعلم مرونة الحياة بيننا علي الرغم من اختلافاتنا.
السلام يبدأ من داخل الإنسان
إن «السلام» لا نجده في الكتب، أو الكلمات، أو الأحداث التي تمر بحياتنا أو بالآخرين، بل إنه يبدأ من داخل الإنسان، ثم ينتشر إلي كل من حوله. لذا، من المهم أن يُدرِك الشخص أن بداية السلام الذي يرغبه هي في أن يحياه هو أولـًا. يتحدث أحدهم عن السلام فيقول: «يبدأ من داخل كل واحد منا. عندما يكون لنا السلام الداخليّ، فسيكون بوسعنا أن نكون في سلام مع من حولنا.»؛ فمن يحاول أن يقدم السلام وهو لا يملِكه في أعماقه، علي أغلب الظن لن ينجح. يقول الشاعر الأديب الإنجليزيّ «رالف والدو إمِرسُن»: «لا شيء يمكن أن يجلُِب السلام لك غير نفسك. لا شيء يمكن أن يجلُِب السلام لك غير انتصار المباديء.». ويؤكد الشاعر الكاتب «ميخائيل نعيمة»: «السلام لا يولَد في المؤتمرات الدُّولية بل في قلوب الناس وأفكارهم.». ووقتما يولَد السلام في أعماق البشر ويسعَون إلي تحقيقه، فحتمـًا سيتحقق بإصرارهم وعملهم وعدم استسلامهم للفشل؛ فكل شيء ممكن. وربما تزداد فرص النجاح أو تخبو، إلا أنه يجب ألا تتوقف عن المحاولة. وبوجود السلام في أعماق الإنسان، يمكن أن يحيا في سلام مع الذين حوله. فقد قيل: «عندما تجد السلام داخل نفسك، تصبح شخصـًا من النوع الذي يمكن أن يعيش في سلام مع الآخرين.».
ونحن لدينا دور هام نحو تحقيق السلام؛ فهو يحتاج إلي تفهم وعمل جاد حتي يمكن إقراره. يتطلب: حوارًا، وفهمـًا عميقًا للآخرين، ومحبةً قويةً لهم. إن من أجمل العبارات التي قرأتُها عن السلام: «عندما تتغلب قوة الحب علي حب القوة، سيشهد العالم السلام.»!!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ