أهنئكم بعيد الميلاد المجيد الذي يحتفل فيه المسيحيُّون بميلاد السيد المسيح، وقد جعلته الدولة إجازة رسمية. ونطلب إلى الله أن يكون هٰذا العام مملوءًا سلامًا وخيرًا لبلادنا المحبوبة مِصر، ولمنطقتنا العربية، وللشرق الأوسط، وللعالم بأسره.
إن الذي يتأمل في قصة الميلاد التي حدثت قبل قُرابة الألفي عام، يجد نفسه أمام تأملات عديدة؛ ففي أحداثها اشتركت شخصيات عديدة: بعضها متقارب، والبعض الآخر متغاير. وكان لكل منها تفاعل مختلف وخاص جدًا تجاه هٰذا الحدث. وعمومًا، نجد أن الله في كل عصر مهما كان مظلمًا “لم يترك نفسه بلا شاهد” (أع17:14)؛ فوجود قديسين في عصر مظلم يعطي رجاءً، وفساد العصر لا يمنع أن روح الله يعمل. ولذا نجد أن هناك مجموعةً كبيرةً من القديسين عاصرت الميلاد.
نذكر من بين هؤلاء: “زكريا الكاهن” الذي ظهر له ملاك الرب وهو يبخر عند المذبح ليبشره بإنجاب ابنه “يوحنا المعمدان”، وأيضًا زوجته “أليصابات”؛ اللذين قال الكتاب عنهما: “وكانا كلاهما بارَّين أمام الله، سالكَين في جميع وصايا الرب وأحكامه، بلا لوم.” (لو6:1). فلم يكُن الفساد يومًا عقبة تمنع وجود أبرار؛ لا في ذاك العصر ولا في أي عصر. كذٰلك وُجد أيضًا:
يوسُِف النجار
لم يذكر الكتاب المقدس عنه كثيرًا، إلا أننا نعرِف من هٰذا القليل أن أصل عائلته يعود إلى داود الملك من سبط يهوذا، وأنه وُلد في “بيت لحم”. ونجده يذهب بالطفل المولود إلى “بيت لحم” بعد إصدار القيصر أمرًا بأن يُكتتب كل مولود في بلده. وكان يعمل نجارًا. وبالرغم من فقره، كان إنسانًا بارًّا، يهتم بالحفاظ على الطقوس والأعياد الدينية.
ولم تكُن المهمة سهلة؛ إذ وهو الرجل الشيخ يأخذ الأم الحُبلى ويسافر بها إلى “بيت لحم”، وهناك يظل يبحث طويلًا عن مكان لتضع مولودها، إلى أن أرشده أحد أصحاب الفنادق إلى حظيرة للحيوانات (مذود)! وعندما تعرضت حياة السيد المسيح للخطر، أسرع بأخذ الطفل وأمه هاربًا إلى أرض مِصر بأمر من ملاك الرب لئلا يٌقتل الطفل؛ غير عابئ بمشقة السفر. وظل هاربًا، متغربًا، يتنقل من مكان إلى مكان في مِصر، وهو لا يذَّخر جُهدًا في تأمين العائلة. وحين أمره الملاك عاد إلى وطنه، ليبدأ دورًا آخر في إعالة تلك الأسرة بكل ما يملِك.
لقد أدى “يوسُِف النجار” دوره ومهمته بكل صلاح غير ساعٍ لمجد، وإنما في خدمة خفية مضحية تقدم كل شيء ولا تنتظر الحصول على أي شيء. وحسب التقليد؛ فقد مات بين يدَي “السيد المسيح” و”السيدة مريم العذراء”، لذا نجد السيد المسيح يوصي تلميذه يوحنا برعاية أمه “مريم” العذراء، فلو كان “يوسُِف النجار” على قيد الحياة آنذاك لكان هو الأولى برعايتها.
ويُعد “يوسُِف البار” من أنبل الأنفس وأرقها وأكثرها تواضعًا؛ لذلك استحق أن يشترك في حدث الميلاد الجليل. وإن كان قد عاش فقيرًا، إلا أن الكتاب وصفه بأنه “كان بارًّا” (مت19:1).
هيرودُس الملك
شخصية أخرى اشتركت في أحداث قصة الميلاد. وكان من أصل أدوميّ ـ من سلالة بني عيسو ـ وعُين من قيصر روما واليًا على الجليل، ثم صار ملكًا على اليهودية. وقد كان “هيرودُس” أول ملك أجنبي يحكم اليهود من أيام موسى النبي بعد أن صاروا تحت حكم الرومان ووافق مجلس شيوخ الإمبراطورية الرومانية على منحه الملك.
كان مقر حكمه في مدينة أورُشليم، وقد اشتُهر بالبناء في أنحاء المملكة، وتميزت مدة حكمه بالازدهار الثقافيّ والاقتصاديّ. إلا أنه كان شديد البطش في حياته، يخشى فقدان ملكه، دائم الريبة فيمن حوله حتى أقرب أفراد عائلته. وقد أمر بقتل كثيرين لشكه في تآمرهم ضده؛ فقتل “هيركانوس” جد أحب زوجاته، ثم قتلها هي، ثم قتل ثلاثة من أبنائه وكثيرين من أصدقائه وأقاربه ومعاونيه!
وذات يوم، جاء مجوس من المشرق متتبعين نَجمًا، يسألون عن ملك اليهود المولود ليقدموا له هداياهم. واضطرب “هيرودس” متوهمًا أن مملكته الأرضية ستُغتصب منه؛ فأوصى المجوس بدهاء أن يُخبروه متى وجدوا الصبيّ، وفي الوقت نفسه بدأ سعيه الشرير ليعرف مكان الطفل. فأخبره رؤساء الكهنة والكتبة عن مكان الصبيّ الذي ذكره الأنبياء أنه “بيت لحم” اليهودية. فبيَّت النية لقتل المولود، إلا أن السماء لم تصمُت كما لم تصمُت مع يوسُِف في حَيرته، فأُوحى للمجوس في حُلم أن لا يعودوا إلى الملك المنتظر عودتهم. ولما انتاب “هيرودُس” اليأس، أصدر مرسومًا بقتل جميع أطفال “بيت لحم” وما حولها من الذكور؛ من سن سنتين فما دون. وأمّا العائلة المقدسة فهربت إلى مِصر، أرض الأمان، وملجأ الأنبياء والقديسين.
ويذكر المؤرخ اليهوديّ “يوسِيفُوس” عن “هيرودُس الملك” أن مرضه ازداد فظاعة بسبب ما ارتكبه من جرائم شنيعة ضد كل الذين عاصروه. فقد أصيب بقروح فى الإمعاء والقولون, وأورام مائية فى قدميه، وكان يجد صعوبة شديدة فى التنفس، كما أصيب بتقلص فى كل أطرافه أدى إلى عدم قدرته على تمالك قواه. وحاول التشبث بالحياة عن طريق السعي نحو كل سبيل للشفاء من أمراضه، إلا أنه فشِل في جميعها؛ حتى إنه حاول الانتحار تخلصًا من الآلام ولم ينجح. ويُذكر عنه أيضًا أنه أمر بجمع رجال اليهودية من كل المدينة وحبسهم، واستدعى أخته وزوْجها لكي يأمرهما بقتل الرجال المحبوسين لديه عند موته حتى تبكي كل اليهودية يوم موته!! إلا أنهما لم يفعلا ذٰلك.
ما أصعب نهاية ذٰلك الإنسان الذي يسعى نحو ذاته فقط ضاربًا بكل القيم والمثل عُرض الحائط، متكبرًا ومعتمدًا على قوته وسلطانه، ظانًا أن لا إلٰه للكَون.
الرعاة
وتمر قصة الميلاد ببعض الرعاة الساهرين على حراسة رعيتهم في مدينة “بيت لحم”. وإذا ملاك يظهر لهم ويبشرهم بالطفل المولود ومكانه، ثم جمهور من الجند السماويّ يظهرون مسبحين الله: “«المجد لله فى الأعالي، وعلى الأرض السلام، وبالناس المسرة».” (لو14:2). إن رسالة السماء لمن يسهر على عمله بقلب صالح وأمين هي رسالة فرح وسلام. ويُسرع الرعاة ليرَوا المولود “طفل المذود”، الذي وإن لم يجد إلا المذود مكانًا له، ولكنه وجد مكانه في قلوب الرعاة الساهرين. وأسرع الرعاة وذهبوا إلى “بيت لحم”، ليجدوا مريم ويوسُِف والطفل مضجَعًا فى المذود.
المجوس
هم حكماء فى بلاد المشرق (فارس)، ويُطلق عليهم اسم “المجوس” الذي يعود في أصله إلى الكلمة الفارسية “ماجو”، وكانوا يدينون في ذٰلك العصر بالــ”الزرادِشتية”. وهم حكماء يعملون برؤية الأفلاك، وحساب الأزمنة. ويذكر بعض المؤرخين اليونانيِّين أن “المجوس” كانوا يقدمون الذبائح ويؤدون طقوسًا دينية، كما كان لهم أهمية خاصة في البلاط الملكيّ ـ في الشرق خاصة ـ إذ كان حكام الشرق يعتقدون بأن حركة النجوم والفلك تعكس أحداثًا ستتحقق في التاريخ. لذٰلك كانوا يسترشدون بهم في إدارة شؤون البلاد. وقد رأى هؤلاء المجوس نَجمًا غريبًا يظهر في السماء، وهو علامة على مولد ملك، فحملوا هداياهم وتبِعوا النَّجم حتى وصلوا إلى “بيت لحم” بعد أن التقوا “هيرودُسَ” الملك. وعندما وصلوا إلى السيد المسيح، سجدوا له، وقدّموا له هداياهم مِن ذهب ولُبان ومُرّ.
لقد اجتذب اللهُ المجوس إلى قصة الميلاد بالوسيلة التي يستطيعون بها فَهمها ألا وهي النجوم وحركاتها؛ فهم علماء فلك. لقد أطاعوا ما رأَوه وتتبعوه معرِّضين أنفسهم لمخاطر السفر، ومخاطر من “هيرودُس”؛ فالسبيل لم يكُن سهلًا لهم. وبسبب أمانتهم وجَهدهم في القصة، أُعلن لهم في رؤيا أن لا يرجِعوا إلى الشر المتمثل في هيرودُس. وبينما قدَّم هؤلاء المجوس الغرباء الهدايا والإكرام للسيد المسيح، دبَّر “هيرودُس” لقتل الطفل.
وهٰكذا قصة الميلاد مرت بكثيرين، إلا أنها أظهرت ما يحويه كل إنسان من خير أو شر؛ فكل من كان أمينًا مخلصًا ساعيًا نحو الخير تباركت حياته بالميلاد مثل: “سمعان الشيخ”، و”حَنة بنت فَنُوئيل” النبية. وبغض النظر عن السن أو نوع العمل، شمَِلت القداسة الجميع: النجار، وعالم اللاهوت، والكاهن، والنبية، والمرأة التي تحيا في بيتها، وعالم الفلك، وراعي الغنم. كذلك جمعت قصة الميلاد في لوحة واحدة: المتزوجين، والمترملين، والمخطوبين، والبتوليِّين، والفقراء، والأغنياء. لقد جاء السيد المسيح للكل، ليعطي الرجاء للكل؛ فكل إنسان له رجاء في المسيح دون النظر إلى سنه أو عمله أو مكانته أو أي شيء آخر، إلا من كان عنيدا في حمل الشر داخله؛ فقد ضاعت منه كل البركات. وكل عام وجميعكم ببركة وخير.
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأرثوذكسيّ