تقف كلمة “المستقبل” على أبواب أيام حياتنا ليتطلع إليها البعض بقلق على أنها قد تكون حُلمًا مريعًا، في حين يرى البعض أنها حُلم السعادة والأمل. وما بين النقيضين نتساءل في حِيرة: تُرى، كيف تكون الأيام القادمة؟ وهل يمكننا أن نصنع هٰذا المستقبل؟
فما بين الماضي والحاضر والمستقبل يحيا الإنسان؛ فتعلمت أن الماضي قد عبر منك فتعلَّمْ منه، والغد أنت لا تُدركه فاعمل من أجله في الحاضر الذي تملِكه وتحياه الآن.
قرر أحد النجارين المَهَرة؛ الذي قضَّى في عمله زمانًا طويلًا، التقاعد عن العمل بعد حياة طويلة حافلة بكثير من الأعمال الرائعة، وأخبر صاحب العمل برغبته هٰذه، وبأنه يرغب في حياة هادئة مع عائلته. شعَر صاحب العمل بالأسف لرحيل هٰذا النجار الماهر، ولٰكنه طلب منه أن يقوم بآخر مهمة له في العمل ببناء بيت أخير قبل ترك العمل. وافق النجار على مضض، وبدأ في بناء البيت إلا أنه لم يستخدم ما لديه من مهارات في بناء البيت، وكذٰلك استخدم أدوات بسيطة. فقد كان كل ما يهتم به هو إتمام هٰذا البيت في أسرع وقت وبأقل مجهود. وقد كان عمله هٰذا لا يتناسب أبدًا وتاريخه المشرف في مهنته. وبعد أن انتهى من بناء المنزل، وفحْص صاحب العمل له، قدَّم مِفتاح المنزل إلى النجار قائلًا: أُقدم إليك هٰذا البيت، إنه هديتي لك! فوجئ النجار بكلمات صاحب العمل، وسَرَت داخله مشاعر من الخجل والندم؛ فلو كان يعلم أنه يبني بيتًا له لبناه أفضل مما فعل!!!
وهٰكذا كل منا يبني حياته ومستقبله الذي سيعيش فيه يومًا ما. وحين تمر الأيام، يُدرك الإنسان أن حياته ومستقبله هما نتاج ما قام بعمله لنفسه. فكل منا هو صانع مستقبله؛ فعملك ومواقفك وخِياراتك هي بِناء الغد، فلينتبه كل إنسان: لِمَ يبنِي، أو يهدم؟!
ومع أن لا أحد يستطيع الادعاء بأنه يعرِف ما يحدث في المستقبل، أو كيف سيكون ـ فهٰذا أمر يتعلق بالله وحده جل جلاله ـ إلا أن هٰذا لا يعني عدم وجود دَور لنا في صنع هٰذا المستقبل! بل على النقيض، فكل منا عليه دور هام يرتقي إلى الواجب والمسؤولية؛ حتى يمكنه الوصول إلى ما يرغب إليه في الغد.
وبنظرة سريعة في الأديان، نجد أنها جميعًا تتفق على أهمية عمل الإنسان في حاضره ليحيا مستقبلًا أفضل. وهٰذا العمل يتعلق بما يخص الأمور الروحية، وما هو متعلق بأمور حياتنا على الأرض. فجميع التعاليم تطالب الإنسان بأن ينتبه للعمل من أجل أبديته والحياة الآخرة بالصلاة والصَّوم وعمل الخير، وفي الوقت نفسه تطالبه بأن يهتم بالعمل من أجل غده ومستقبله؛ فيقول الحكيم في سفر الأمثال: “نَفْسُ الكسلان تشتهي ولا شيء لها، ونفس المجتهدين تَسمَن.”، وعدم اهتمام الإنسان يؤدي إلى هلاكه وسوء حاله: “الكسلان لا يحرُِث بسبب الشتاء، فيستعطي في الحصاد ولا يُعطَى.”. وفي القرآن، نجد في سورة الحَشْر: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ٱتَّقُوا اللهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾. من هنا نجد أن الله قد وهب لكل منا: قدرات، إمكانات، مواهب، أموال، صحة ذكاء، و غيرها من المِنح؛ لصنع غد أفضل لنا ولمن حولنا.
وبذٰلك فإن أول قاعدة في صناعة المستقبل تكمُن داخلنا نحن؛ يقول الكاتب المسرحيّ وليَم شِكْسْبير: “إن مصيرنا ليس في النجوم بل في أنفسنا”؛ فمستقبل الإنسان ومصيره يتوقفان عليه هو لا على قوة أخرى خارجه. لذا يجب أن يكون لنا الإيمان بدَورنا في صنع مستقبلنا، فنقوم به بأمانة والرب يُعطينا النجاح.
أمر آخر في صنع المستقبل هو الارتباط الوثيق الذي لا ينفصم بين الحاضر والمستقبل؛ فما يزرعه الإنسان إياه يحصد؛ وبذٰلك يكون المستقبل نِتاج ما نحياه اليوم. فإن من لم يبنِ اليوم لن يجد له مبيتًا في الغد. لذا ما نفكر فيه وما نفعله الآن يرسُِم مستقبلنا. ومن هنا تنشأ أهمية الحاضر الذي نحياه ليصبح لدينا مستقبل تتحقق فيه آمالنا وأحلامنا. والإنسان الذي ينحصر في الماضي ولا يتخطاه، ويُهمل الحاضر فلا يبني فيه، حتمًا يخسَِر مستقبله. ليكُن الماضي طريقًا للتعلم، والحاضر إصلاحًا وتعديلًا.
وفي صنع المستقبل نستكمل معًا حوارنا …
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ