بدأنا في المقالة السابقة الحديث عن صناعة المستقبل الذي قد يُنظر فيه من البعض برَيب ومن البعض الآخر بثقة، وأن الغد تبدأ صناعته اليوم. لذا علينا أن نبني ما يحقق لنا الحياة التي نرغَبها مستقبلًا بالحاضر الذي نحياه الآن. وفي هٰذا تدعو الأديان جميعًا إلى العمل بما وهبه الله للإنسان من إمكانات لغده. والقاعدة الأولى في صناعة المستقبل تكمُن في إيمان كل منا بدَوره في صنع مستقبله، وبأن المستقبل هو نِتاج ما يُزرع اليوم.
وصنع المستقبل أيضًا يرتبط بالماضي؛ فخبرات الإنسان التي يمتلِكها هي نِتاج: ما مر به من مواقف في حياته السابقة، وتصرفاته حيالها سواء صحيحة أو خاطئة. ومن خلال هٰذه الخبرات يكتسب الإنسان القدرة على اتخاذ القرار الصائب في المواقف التي ستلاقيها. فدَور الماضي في صنع المستقبل هو أنه يكشف لنا الخطأ أو الصواب فيما قمنا به لنتخذ المواقف السليمة التي تجعلنا قادرين على صنع مستقبل أفضل.
ويجب ألا يُصبح الإنسان في صراع بين ماضيه وحاضره؛ لأنه حينئذ لن يتبقى له الجُهد، أو الفكر، أو المقدرة على العمل من أجل المستقبل؛ يقول تشرشل: “إذا فتحنا الصراع بين الماضي والحاضر نجد أننا خسَِرنا المستقبل”. وأيضًا من كلمات چون كيندي: “إن العالم لا يتوقف، والتغير هو قانون الحياة. ومن ينظر إلى الماضي أو الحاضر فقط، فسيفقد المستقبل بكل تأكيد.”.لذا، فلنجعل هدفنا نحو المستقبل مع إطلالة على الماضي لنتعلم منه؛ فالاعتراف بأخطاء ماضية يساعد على رسم مستقبل أفضل. وتُعجبني قصة الرجل الذي ينقُل الماء في جرتين يحمِلهما على كَِتِْفه مثبتتين في طرفي عصا طويلة فتتدلى واحدة عن يساره وأخرى عن يمينه. وكان بإحدى الجرتين شرخ أدى إلى تسرب المياه منها على طول الطريق؛ فيعود الرجل بنصفها ممتلئًا فقط. وقرر الرجل الاستفادة من عَيب هٰذه الجرة؛ بأن غرس بعض بُذور الزهور على طول الطريق من البئر إلى المنزل؛ وهو ما جعل الطريق بعد حين يمتلئ بالزهور الجميلة في جانب الجرة المشقوقة. لقد كان ماؤها ينسكب على البُذور حتى نمت وصارت زهورًا جميلة. وهٰكذا في طريق صناعتك المستقبل، كل عيب أو خطأ مضى يمكنك أن تستخدمه في تحقيق نجاح قادم.
أيضًا في صناعة المستقبل يجب أن تكون لدينا رؤية واضحة لما نريد تحقيقه فيه. فإن كان السَير دون ضَوء في طريق سيؤدي حتمًا إلى التعثر، هٰكذا أيضًا السَير في طريق لمستقبل بلا رؤية. يقولون: “من الحكمة أن تنظر إلى الأمام، ولٰكن من الصعب أن تنظر أبعد مما يمكنك أن تراه.”.فالرؤية التي نملِكها اليوم للغد هي أقصى ما يمكننا أن نراه للمستقبل، ومن لا يملك هٰذه الرؤية لن يستطيع إنجاز أي شيء في مستقبله. والرؤية تعني معرفة ما نرغب في تحقيقه بطريقة محددة واضحة على المدى القصير والآخر البعيد. ولذٰلك فهي تساعدنا في تنظيم أفكارنا، وتحديد خَُطواتنا إلى التقدم من خلال خُطة متكاملة. كذٰلك هي تَحفِزنا إلى العمل بهمة وجِد لتحقيق ما نراه اليوم حُلمًا. والرؤية أيضًا تجعلنا ثابتين على العمل نحو تحقيق الهدف الذي نصبو إليه؛ مع ما نلاقيه من صعوبات. وهناك قصة مع بساطتها إلا أنها تؤكد قيمة الرؤية التي نملِكها في صنع المستقبل. كان رجل تُقِلّه الحافلة إلى عمله كل يوم، وفي طريقه كانت تجلس جانبه سيدة عجوز تحرِص دائمًا على الجلوس إلى جوار النافذة، ثم تفتـح حقيبتها وتُخرج منها كِيسًا ممتلئًا ببُذور الورد وتقذفه من النافذة! لقد كانت تملِك حُلمًا بأن ترى الطريق ممتلئًا بالورود الجميلة. وحين تحدث الرجل معها عن صُعوبة تحقيق حُلمها، أوضحت أنها تقوم بدَورها وإن فُقد كثير من البُذور؛ فبعض منها سيأتي بثمار يومًا. اعتقد الرجل أن حُلمها هٰذا ما هو إلا درب من الجُنون! إلى أن جاء اليوم الذي جلس فيه إلى جوار النافذة، ورفـع بصره، فإذا به يرى وُرودًا تنتشر على جانبي الطريق في منظر خلاب! وهنا تذكر العجوز التي كانت تَنثُر البُذور، فسأل عنهـا بـائع تذاكر الحافلة، فأجاب بأنهـا ماتت قبل شهر. فكر الرجـل فـي نفسـه: إن السيدة لم تستفِد شيئًا! فقد رحلت دون التمتع بهٰذا الجمـال. لٰكنه سمِـع ضحكات طـفلة صغيرة تقول: ما أجمل هٰذا الطريق بالزهور التي تملأه! فحينئذ أدرك ما صنعته السيدة للآخرين.
إن أردنا مستقبلًا ممتلئًا بالنجاح فعلينا أن نمتلِك رؤية. وفي صنع المستقبل وصناعته نستكمل معًا حوارنا …
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ