تحدثنا في المقالة السابقة عن ارتباط المستقبل بالماضي المعاش من خلال الخبرات المكتسبه مما يعطي القدرة على اتخاذ مواقف وقرارات أفضل، دون الدخول في صراعات تُفقدنا المستقبل. كذٰلك وجود رؤية لدى الإنسان يجعله يخطو أسرع نحو مستقبل أفضل وبطريقة أكثر أدقة.
وترتبط الرؤية بالعمل، فمن لديه رؤية ولا يعمل أو لم يتخذ الخُطوات اللازمة لتحقيقها على أرض الواقع، كانت رؤيته دربا من الأحلام. لذا، على الإنسان أن يعمل من أجل الوصول إلى ما رسمه لنفسه مستقبلًا. ومن أجمل ما قرأتُ كلمات الشاعر “خليل مطران” عن العمل:
اِعْزِِمْ وَكِدَّ فَإِنْ مَضَيْتَ فَلا تَقِفْ … وَاصْبِرْ وَثابِرْ فَالنَّجاحُ مُحَقَّقُ
لَيْــــــسَ الْمُوَفَّقُ مَن تُوَاتِيهِ الْمُنَى … لٰكِنَّ مَنْ رُزِقَ الثَّبــــاتَ مُوَفَّقُ
ويقولون أيضًا: “اتقن عملك تحقق أملك”. واعتبر سقراط أن العمل الحقيقيّ هو العمل المتقن فيقول: “ليس العاطل من لا يؤدي عملًا فقط، العاطل من يؤدي عملًا في وسعه أن يؤدي أفضل منه.”. وحتى يكون العمل متقنًا يجب أن: يتسم بالجِد، تملئه الهمة والكَد، مع إدراك ووعي لدَور العلم في معالجة مشكلات الحاضر، والتحرك نحو النجاح. وهو يشمل: التخطيط السليم وترتيب الأولويات، والتنفيذ بدقة، مع تقييم ما جرى إنجازه وتعديل الخطأ. وهٰذا يبني ثقة الإنسان بنفسه وبخَُطواته.
وعلى الإنسان أن يُدرك أنه حتمًا سيتعرض للمشكلات التي تحاول إعاقة كل تقدم له. ولٰكنْ من يسعى بكل همة في صنع المستقبل، ينظر إلى المشكلات كتحديات تَزيد من صلابته وإصراره على الوصول إلى الهدف الذي رسمه لذاته. فلا ييأس، وإنما يردد مع إديسون: “أنا لم أفشل، بل وجدتُ ألف طريقة لا تصل بي إلى هدفي.”.وبأسلوب بسيط وسريع نقول إن تحويل الفشل الذي نتعرض له إلى قوة دافعة في الطريق نحو المستقبل يحتاج من الإنسان إلى أن: يحدد ما يريد تحقيقه، والمشكلة التي تقابله، مع عدم اليأس والاستسلام، وإدراك ما يساعد على تخطي هٰذه المشكلة والقدرة على البَدء من جديد. إن عدم اليأس يهب الإنسان الجَراءة والقدرة على المواصلة والاستمرار في الصعود نحو مستقبل مُزهِر؛ فتكون حياة الإنسان بين السحاب لا الحُفر. وبهٰذا يعمل الإنسان بما وهبه الله له من إمكانات شخصية بكل أمانة، والله يكلل عمله بالنجاح. ولا تنسى أن كثيرًا من البشر لا يُدرك ما به من إمكانات؛ فلا يستخدمُ إلا القليل منها. فقُم باستخدام ما لديك، وأيضًا طوِّر نفسك: بالقراءة، واستيعاب خبرات الآخرين التي تصونك من أخطاء كثيرة في المستقبل، وتقبَّل النقد الذي يقودك إلى تطوير ذاتك.
وكما أن صنع المستقبل هو صناعة على مستوى الفرد، فهو أيضًا صناعة على مستوى الدُّول. فيجب على الدُّول أن: يؤمن كل فرد فيها بدَوره في صنع المستقبل مهما صغُر دَوره. فجميع الأدوار مهما صغُرت تؤثر في صنع المستقبل بعمق. أتذكر قصة عازف الفلوت الذي شعُر بأن دَوره ليس هامًّا بين عازفي الآلات الأخرى في المقطوعة الموسيقية؛ فقرر التوقف عن العزف واثقًا أن عدم مشاركته لن يلحظها أحد. إلا أن المايسترو توقف فجأة متسائلًا: أين الفلوت؟! هٰكذا في صناعة المستقبل، يجب أن يؤمن كل منا بدَوره، ويحترم ويقدر دَور الآخرين مهما كان عملهم بسيطًا دون سخرية أو تصغير من قدرة أحد، فنحن نصنع المستقبل وسنحياه معًا.
وهٰذا يحُث الدول على الاهتمام بإمكانات أبنائها وصقل مواهبهم لصنع مستقبل أفضل؛ ويُعد هٰذا منها بمثابة زراعة للحاضر لحصد مستقبل ناجح. كذٰلك من الهام للدُّول أن تُدرك الماضي بأحداثه وتعي التاريخ في صدرها لتُضيف أعمارًا إلى عمرها، فكما يقولون: إن التاريخ يكرر ذاته؛ هٰكذا حين نُدرك خبرات الماضي نخطو بثقة نحو مستقبل أفضل. وفي صنع المستقبل، تهتم الدول بشبابها وطاقاته غير المحدودة في صنع الغد وتغييره. وقنوات التواصل بالشباب تُعطي أولوية للحوار والتعبير عن الرأي، مع تفهم وإيمان عميقَين من جميع الأطراف بأن الحوار والتعبير عن الرأي هما وسيلتان للتفاهم والتقارب نحو الهدف نفسه، وليسا للتصارع وإثبات الذات.
إن المستقبل الذي نخطو نحوه يستحق منا أن نتقدم ونصنعه معًا ليكون سر سعادة وازدهار لنا جميعًا، متذكرين المقولة: “إنني أهتم بالمستقبل لأني سأُقضِّي فيه بقية حياتي”.
الأسقف العام رئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ