من المساحات المشتركة التي يحياها المِصريُّون جميعًا وتؤثر تأثيرًا عميقًا في أسلوب حياتهم وتنظيمها هو “دُستور البلاد”؛ الذي يضع القواعد والأسس التي تسير عليها الدولة لتنظيم حياة مواطنيها بكرامة.
· تعريف الدُّستور
تستخدم كلمة “دُستور” في حياتنا بمعنى “التأسيس” أو “النظام”، وهي كلمة فارسية الأصل، وتتكون من مقطعين: “دُست” بمعنى “القاعدة”، و”ور” وتعني “صاحب”؛ ومن هنا تعني كلمة الدُّستور “صاحب القواعد”. ومن خلال هٰذه القواعد تأتي الأنظمة والقوانين التي تسير عليها حياة من يعيش على أرض الدولة الواحدة؛ فيتحدد نظام حكمها فيها سواء ملكيًا كان أو جمهوريًا، وأيضًا نظام حكومتها. ويقوم “الدُّستور” أيضًا بتنظيم السلطات العامة والعَلاقة بين السلطات وأفراد الدولة، وبين أفراد الدولة أنفسهم من حيث حقوق كل منهم وواجباتهم؛ دون المساس بالمعتقدات الدينية أو الفكرية. إن الدُّستور يحمل المبادئ والأُطُر التي تعمل بها الدولة لتُسيِّر شؤونها الداخلية والخارجية. وكل قانون أو لائحة تخالف أية قاعدة دُستورية يكون غير شرعيّ.
· تاريخ الدساتير المِصرية
وهناك عَلاقة وثيقة بين الثوْرات والدساتير؛ فنتاج الثورات إرساء دساتير جديدة تتفق ومبادئ التغيير التي قامت من أجلها الثوْرات؛ فمن الممكن اعتبار الثوْرات موتًا لدساتير وميلادًا لأخرى. ولم يتوقف سعي الشعب المِصريّ ونضاله على مر تاريخه في كل العصور، فأفرز نضاله عن عدة دساتير لتحقيق الكرامة والحرية والاستقرار له.
بدأت الدساتير المِصرية مع اللائحة الأساسية لعام 1825م التي أصدرها مُحمد علي باشا، وتبِعها قانون”السياستنامة” في ١٨٣٧م. ثم صدرت في 1866م لائحة تأسيس مجلس شورى النواب وانتخاب أعضائه، وأعقبتها في عام 1882م “اللائحة الأساسية” الخاصة بانتخاب أعضاء مجلس النواب. ثم صدر دُستور للبلاد عام 1882م قاومه الاحتلال الإنجليزيّ آنذاك، إلا أنه أُعيد إصداره في عام 1923م. ثم أعقبه ثلاثة أوامر ملكية في عام1930م بوضع نظام دُستوريّ للدولة عُرف باسم “دُستور 30”. وفي عامي 1934 و1935م، أُلغِيَ”دُستور 30″ واستمر العمل بـ”دُستور 23″ حتى عام 1952م.
صدر في عام 1952م أول إعلان دُستوريّ يُسقِط “دُستور 23″، وكُوِّنت لجنة لوضع مشروع دُستور جديد. أعقبه إعلان بمشروع دُستور للبلاد في 1954م يشمل أحكامًا دستورية مؤقتة حتى صدور الدُّستور الجديد.
وفي 1956م طُرح دُستور لمصر لأخذ موافقة الشعب عليه. ثم صدر دُستور مؤقت في عام 1958م، وأعقبه إعلان دُستوريّ بشأن التنظيم السياسيّ لسلطات الدولة العليا في عام 1962م؛ اللذان توقَّف العمل بهما بدُستور 1964م. ثم صدر دُستور جديد للبلاد جرى العمل به في عام 1971م، وتلَته عدة إعلانات بتعديلات دُستورية في أعوام 1980 و2005 و2007م.
وبعد ثورة الخامس والعشرين من يناير 2011م، أصدر المجلس العسكريّ المنوطة به إدارة شؤون البلاد خمسة إعلانات دُستورية في 2011م؛ وذٰلك في: الـ13 من فبراير ، والـ30 من مارس، والـ25 من سبتمبر، والـ19 من نوڤمبر، وأخيرًا في الـ17 من يونيه 2012م. وبعد تسليم السلطة لرئيس مِصر، صدر إعلان دُستوريّ في نوڤمبر 2012م، ثم وُضع دُستور للبلاد في عام 2012م. وباستمرار ثورة البلاد، صدر إعلان دُستوريّ في 2013م يُعطل العمل بدُستور 2012م، ويؤلف لجنة لتعديل الدستور.
وفي عام 2013م، عُدِّلت مواد الدستور المعطَّل، وطُرحت التعديلات للاستفتاء الشعبيّ يومي الـ14 والـ15 من يناير 2014م. وتؤكد دِيباجَة دُستور 2014م أن:
– مِصر أول دولة مركزية في العالم، هبة النيل للمصريِّين وللإنسانية كلها؛ فهي قلب العالموملتقى الحضارات والثقافات، ومفترق طرقه البحْرية.
-مِصر مهد الدِّين، ففى أرضها شب كليم الله، وتجلى له النور الإلٰهيّ، وتنزلت عليه الرسالة فى طُور سنين. كذٰلك احتضن المِصريُّون السيدة العذراء ووليدها، وقدموا آلاف الشهداء دفاعًا عن كنيسة السيد المسيح.
– جاهد شعبها في واحدة من الثوْرات الفريدة في تاريخ الإنسانية حتى انتصر جيشها الوطنيّ للإرادة
الشعبية الجارفة فى ثورة “25 يناير” ـ وامتدادها “30 يونيو”ـ التي دعت إلى العيش بحرية وكرامة إنسانية تحت ظلال العدالة الاجتماعية، وأرست مبدأ المواطنة والمساواة بين أبناء الجماعة الوطنية. وحمى الجيشُ الشعب وانحاز إلى إرادته الثورية، ولِمَ لا وهي الثورة الفريدة بكثافتها الشعبية وبسلميتها وبطموحها لتحقيق الحرية والعدالة الاجتماعية معًا.
– تأكيد بناء عالم إنسانيّ جديد تسوده الحقيقة والعدل، وتصان فيه الحريات وحقوق الإنسان، وقدرةِ المصريِّين
على النهوض بالوطن ونهوض الوطن بهم. وكذٰلك تأكيد الإيمان بالديمقراطية كطريقٍ ومستقبلٍ وأسلوب حياة، وبالتعددية السياسية، وبالتداول السلميّ للسلطة، وأنه من حق الشعب أن يصنع مستقبله؛ فهو وحده مصدر السلطات.
· اهتم دُستور 2013م بالآتي:
– إعطاء العمال حقوقهم كاملة، حين نص على عدم فصل العامل فصلًا تعسفيًا إلا بموجِب حكم قضائي واجب النفاذ.
– إعطاء المرأة جميع حقوقها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية؛ وبذٰلك تكون قد تساوت هي والرجل في جميع الحقوق.
– جرَّم الدُّستور العنصرية، وتخلص من الطائفية، وأرسى مبادئ المساواة، والعدل، وتكافؤ الفرص، وعدم التمييز بين المواطنين على أي أساس عرقيّ أو دينيّ أو فكريّ.
– اهتم الدُّستور بالفلاحين والعمال؛ وبخاصة من لا يمارس عملاً منتظمًا، كما اهتم بالمعاقين.
– أَولى الدُّستور اهتمامًا كبيرًا بالتعليم والصحة والتنمية والتقدم.
– حرَص الدُّستور على حماية موارد الدولة من زراعة وثروة سمكية، بالإضافة إلى المواردالطبيعية مثل نهر النيل والشواطئ وبحارها. وأكد أن موارد الدولة هي ملك لشعبها، وأندور الدولة المحافَظة عليها واستخدامها على الوجه الأكمل.
لقد تعلَّم المِصريّ دائمًا أن يكون مبادرًا ومشاركًا في كل ما يتعلق بأموره. فإنه هو المقات لالذي لا نظير له عندما يتعلق الأمر بذرة واحدة من تراب بلاده. وكما يقدم المصريُّون دائمًا إلى العالم النماذج والدروس في حب الوطن، هٰكذا لا أشك لحظة في أنه سيستمر في خطاه ودوره وواجبه لصنع مستقبله ورفعة شأنه من خلال المشاركة في التصويت على الدُّستور. حفِظ الله مِصر وشعبها من كل شر.
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافيّ القبطيّ الأُرثوذكسيّ