استكملنا الحديث بالمقالة السابقة عن «الحاكم بأمر الله» (386- 411هـ) (996-1021م)، وحكمه الذى كان مثار جدل بين المؤرخين وما يزال. وتكلمنا عما ذُكر فى شأنه: من تجوله بين الشعب وتلقى شكاواه، وبنائه «جامع القاهرة» و«مسجد راشدة»، وتأسيسه «دار الحكمة»، وتقلبه فى أمور الحكم، وكثرة إصداره المراسيم، وحرقه «مِصر».
«الحاكم بأمر الله» و«المَسيحيُّون» و«اليهود»
ذكر المؤرخون أن «الحاكم بأمر الله» كان شديد العنف على المَسيحيِّين واليهود، فيذكر أبوالمظفر بن قزأوغلى: «وجعل لأهل الذمة علامات يُعرفون بها، وألبس اليهود العمائم السود، وأمر ألا يركبوا مع المسلمين فى سفينة، وألا يستخدموا غلامًا مسلمًا، وألا يركبوا حمار مسلم، ولا يدخلوا مع المسلمين حمامًا، وجعل لهم حمامات على حدة، ولم يُبقِ فى ولايته ديرًا أو كنيسة إلا هدمها. وأسلم خلقٌ من أهل الذمة خوفًا منه ثم ارتدوا؛ وأعاد الكنائس إلى حالها».
وكتب الإمام جلال الدين السيوطى: (وأمر «النصارى» بأن تُعمل فى أعناقهم الصلبان؛ طول الصليب ذراع ووزنه خمسة أرطال بالمِصريّ؛ و«اليهود» أن يحملوا فى أعناقهم قَرامى الخشب فى زنة (وزن) الصلبان، وأن يلبسوا العمائم السود، فأسلمت طائفة منهم. ثم بعد ذٰلك أذِن فى إعادة البيَع والكنائس، وأذِن لمن أسلم أن يعود إلى دينه؛ لكونه مُكرَهًا…). كذٰلك منع «المَسيحيِّين» من الاحتفال بعدد من الأعياد التى كان يُحتفل بها شعبيًّا كـ«عيدى الصليب والشعانين»؛ فكتب «المقريزى» يقول: «وتشدد على «النصارى» وألزمهم بلبس ثياب «الغِيار» (نوع من الأثواب علامةً عليهم) وشد الزُِّنّار (نوع من الأحزمة) فى أوساطهم، ومنعهم من عمل «الشعانين» و«عيد الصليب»، والتظاهر بما كانت عاداتهم فعله فى أعيادهم من الاجتماع واللهو. وقبض على جميع ما هو مُحبس (موقوف) على الكنائس والديارات وأدخله فى الديوان، وكتب إلى أعماله (المتولّين أو الموكلين بأموره) كلها بذٰلك. وأحرق عدة صلبان كثيرة، ومنع «النصارى» من شراء العبيد والإماء، وهدّم الكنائس التى بـ«خط راشدة ظاهر مدينة مِصر»، وخرّب كنائس «المَقُسّ» (معناها «مقابر» وكان مكانها «قرية أم دنين») خارج «القاهرة» وأباح ما فيها للناس فانتهبوا (نهبوا) منها ما يَجِلّ وصفه (يعظُم عن الوصف)، وهدّم «دير القصير» وأنهب العامة ما فيه، ومنع «النصارى» من عمل (عيد) «الغطاس» على شاطئ «النيل» بمِصر… ثم ألزم «اليهود» و«النصارى» بخروجهم كلهم من أرض «مِصر» إلى بلاد «الروم»؛ فاجتمعوا بأُسرهم تحت القصر من «القاهرة»، واستغاثوا ولاذوا بعفو أمير المؤمنين حتى أُعفوا من النفي؛ وفى هٰذه الحوادث أسلم كثير من «النصارى».
وعام 400هـ (1009م) ـ وفى بعض المصادر 398هـ (1007م)، أمر «الحاكم بأمر الله» بالإغارة على «كنيسة القيامة» بالقدس، وبتهديمها وتخريبها؛ فظلت خَرِبة حتى عام 429هـ (1037م) حين أرسل قيصر «الروم» عددًا من الرسل والهدايا إلى الخليفة الحاكم وطلب إصلاحها؛ فقبل وأعيد تعميرها؛ كذٰلك ذُكر أنه أمر ببناء ما كان قد أمر بتهديمه من كنائس «مِصر».
وهنا أشير إلى تقسيم الباحث الدينى «نسيم دانا» الذى قدمه عن عَلاقة «الحاكم بأمر الله» بـ«المَسيحية» و«اليهودية» فى ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى 996- 1006م، حيث كان زمان تسامح نسبى مقابل دفع الجزية، تخلله إصدار بعض المراسيم مثل منع الاحتفال بـ«عيدى الغطاس والقيامة» فى عام 1004م، وحظر استخدام النبيذ، وعام 1005م جاءت قرارات الملابس والعمائم السود لتمييز «المَسيحيِّين» من «المسلمين»، وإلباس «المَسيحيِّين» الصليب الحديد، و«اليهود» قلادة العجل ثم استَبدل بها جرسًا، وأُجبرت النساء المَسيحيات على ارتداء حذاءين مختلفى اللون: أحمر وأسود وذلك حتى عام 1014م.
المرحلة الثانية 1007- 1012م، وكانت أشد عداءً على «المَسيحيِّين»: حيث أمر بتدمير «كنيسة القيامة»، وحظر المواكب الدينية، وتدنيس المدافن المَسيحية، ومعاقبة عدد من الموظفين المَسيحيِّين، كما فرض على «المَسيحيِّين» تعليق صلبان خشبية حول أعناقهم، ومنعهم من امتطاء الجياد، واستبدل بـ«الموظفين المَسيحيِّين» آخرين «مسلمين»، وهدَّم الكنائس.
أما المرحلة الثالثة 1012- 1021م، فكانت أقل عداءً: إذ سمح للمتحولين من «المَسيحيِّين» و«اليهود» قسرًا بالعودة إلى عقائدهم، وأعاد بناء ما خُرّب من الكنائس و… والحديث فى «مِصر الحلوة»! لا ينتهى.