حين نتحدث عن أكتوبر، فإنما ننطلق إلى صفحة من أبرز صفحات التاريخ المِصرىّ: نخوض بفرح وفخار فى الحديث عن العزة والكرامة المِصرية التى شهِدتها ميادين القتال، عن القدرة والبراعة المِصرية فى الوصول إلى ما كان يظنه العالم ضربًا من ضروب المستحيل، عن قصة حب للوطن خلدها التاريخ فى بطولات كُتبت بدماء شهدائنا الأبرار. وتحضرنى كلمات قرأتها لأحد مراسلى إذاعة «BBC» يصف أحد أبطال الصاعقة المِصرية الذى ضحى بنفسه من أجل أن يفتح الطريق لزملائه إلى تحصينات العدُو. إنها بطولات تحدث عنها العالم بأسره، حتى العدُو أيضًا! فقد ذكر أحد قائدى الدبابات الإسرائيلية عن الأبطال المِصريِّين: «خرجوا علينا من بين جنازير الدبابات المحترقة، يلقّمون مدافع «RPG» ويُطلقونها علينا من مسافة 20 مترًا فقط ـ تُعد أقل مسافة آمنة 200 مترًا!! ـ كانوا مجانين، وكأنهم قرروا أن يدفعوا حياتهم ليمنعونا من التقدم مترًا واحدًا».
حرب المستحيل
«شاهدنا الحرب، شاهدناها تقترب، ولم يصدق كثيرون منا أنها تقع. وقد حذر آخرون منها، وتمنَّوا ألا تصدُق تحذيراتهم؛ شاهدناها تقع وتمنَّينا اللحظة التى تنتهى فيها. شاهدنا المقاتلين فى أكثر ساعاتهم صعوبةً، وفى أكبر لحظاتهم وأشدها إيلامًا…»؛ كانت تلك كلمات عدد من الصحفيِّين الإسرائيليِّين عن «حرب أكتوبر» 1973م التى عدّها العالم ـ وبالأخص العدُو ـ ضربًا من المستحيل؛ إذ اعتقد الجميع أنه لا مجال لأن تشُن «مِصر» و«سوريا» فى المستقبل القريب حربًا على «إسرائيل»! وإن حدث ذٰلك، فإن للجيش الإسرائيلىّ قدرة المواجهة والانتصار؛ فقد أعلن رئيس الأركان الإسرائيلىّ فى 19/4/1973م: «لا يعقل أن يبدأ المِصريُّون بإطلاق النار؛ لأن مثل هٰذه الخُطوة تعرضهم لأخطار كبيرة؛ ومع ذٰلك يجب أن نكون مستعدين حتى لأعمال غير معقولة من جانبهم.». وقد أثبتت «حرب أكتوبر» خطأ معتقداتهم؛ إذ لم يدركوا طبيعة المِصرىّ وقدرته وعزيمته ومحبته المتأصلة فى أعماقه لتراب بلاده. فكانت الحرب، وكان الانتصار.
حرب الرعب
كانت «حرب أكتوبر» تحقيقًا للحُلم الذى ظل المِصريُّون يحفظونه فى قلوبهم إلى أن صنعوا منه واقعًا يعيشونه، محققين النصر. ومع بَدء الحرب، وقعت ظلال الرعب فى قلوب جنود العدُو؛ فقد كتب أحد ضباط المدرعات فى «هضْبة الجولان»: «اشتركت فى ثلاث حروب: «حرب الأيام الستة»، و«حرب الاستنزاف»، وهٰذه الحرب («حرب أكتوبر»)؛ وعندما سمِعت من الإذاعة عن هٰذه الحرب، أخذت أرتعد؛ كنت واثقًا بأنه سيُقضى علىّ هٰذه المرة…».
وفى السادس من أكتوبر، وصلت التقارير الإسرائيلية: «المِصريُّون يعبرون القناة، أعداد غفيرة من الجُنود، مئات القوارب المطاطية، والقوارب المصنوعة من الألياف الزجاجية، ومن مدارج العبور، فى الجانب الغربىّ من القناة…». وتعالت صرخات أحد ضباط الجبهة الجنوبية بأن الوضع فى الحرب ميؤوس منه، فى حين طالب قائد القوات المدرعة الإسرائيلية فى «سيناء» غطاءً جويًّا لوقف التقدم المِصرىّ: «إذا لم تُرسلوا إلىّ الطيران، سقط (القطاعان) الجنوبىّ والأوسط. 200 دبابة على الأقل تتدفق فى الوسط والجنوب. يجب إرسال الطيران، وبدرجة ملحة؛ لعل الطائرات توقف العبور». ولم يتوقف العُبور، ونجح المِصريُّون فيه على امتداد القناة. وقد ذكر بعض الكتاب الإسرائليِّين: «وفى أقل من 24 ساعة، تحولت «إسرائيل» من دولة عسكرية كبرى ـ حتى بالمفاهيم العالمية دولة أصبح جيشها رمزًا ونموذجًا لجيوش العالم- إلى دولة تقاتل بشراسة من أجل وجودها بالذات، فى الوقت الذى يخيم عليها شبح الدمار».
إن انتصارات أكتوبر المجيدة ليست ذكريات تُسرد على مدار الأعوام فحسب، بل هى قوة دافعة تؤكد دائمًا ذكاء المِصرى وعزيمته، وتضعنا أمام المسؤولية الجسيمة فى الحفاظ على الوطن، والعمل على بنائه فى أوقات الحرب والسلم؛ إنها مسؤولية ودور يجب علينا جميعًا أن ندركهما دائمًا. أهنئكم جميعًا ببطولات أكتوبر العظيم الخالد، متمنيًا لبلادنا العزيزة «مِصر» كل خير وسلام ورخاء وتقدم. و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!.