تحدثنا فى مقالتين سابقتين عن حاكم مِصر «الحاكم بأمر الله»، وتقلبه فى أمور الحكم، وكثرة إصداره المراسيم، وعَلاقته بكل من المَسيحيِّين واليهود التى امتلأت عنفًا، وأمره بتهديم «كنيسة القيامة» بالقدس وتخريبها!! ثم سماحه للمتحولين من «المَسيحيِّين» و«اليهود» قسرًا بالعودة إلى عقائدهم، وإعادة بناء ما خُرّب من الكنائس.
وقد ذكر عدد من المؤرخين أن «الحاكم بأمر الله» فى آخر أيامه قد ادعى الرَّبوبية!!، فذكر «الذهبىّ»: «يقال إنه أراد أن يدعى «الإلهية» وشرع فى ذٰلك؛ فكلمه أعيان دولته وخوفوه بخروج الناس كلهم عليه؛ فانتهى»؛ كما يذكر «جلال الدين السيوطى» أن «الحاكم بأمر الله» عام 396 هـ (1005م): «أمر الناس بـ«مِصر» و«الحرمين» إذا ذُكر الحاكم… أن يقوموا ويسجدوا فى السوق وفى مواضع الاجتماع».
وقد كانت حياته وأحكامه مثار جدل المؤرخين، واختفاؤه وموته كانا مثار جدل أعظم؛ فقد اختفى «الحاكم بأمر الله» فى أثناء إحدى رِحْلاته الليلية؛ وتختلف تفاسير ذٰلك الاختفاء بين المؤرخين: ففريق يرى أنه قد اغتيل، وآخر يرى أنه اختفى فى «دير شهران» الذى كان دائم التردد عليه؛ وثالث يظن أنه رُفع إلى السماء.
ويذكر «ابن تَغرى» عن «الذهبى»: «واتفق أنه خرج ليلةً، فى «شوال» سنة إحدى عشْرة، من القصر إلى ظاهر «القاهرة»، فطاف ليلته كلها، ثم أصبح فتوجه إلى شرقى «حُلوان» ومعه ركابيان (كاتبان)، فرد أحدهما مع تسعة من العرب السُّوَيديِّين (قد يكونون منتسبين إلى زعيم اسمه «سُوَيد بن الحارِث»، ثم أمر الآخر بالانصراف؛ فذُكر أنه فارقه عند «قبر الفقاعى» فكان آخر العهد به (بـ«الحاكم بأمر الله»)». وقد قيل أيضًا إنه خرج ليلاً متجهًا إلى «جبل المقطم» كى ينظر النجوم كعادته؛ ومنذ ذٰلك الحين لم يرَه أحد وأصبح فى عداد المفقودين!!، وحين أرسل الرجال بحثًا عنه، لم يعثروا إلا على الحِمار الذى كان يمتطيه، وجُبَّته معفَّرةً بالتراب، وقميصه ممزقًا، فى حين لم يُعثر على جسده حتى الآن.
وقد ظن معظم المؤرخين أنه تعرض لمؤامرة اغتيال، وإن تعددت رواياتها: منها أن أصابع اتهامات كثيرين قد أشارت إلى أنه قُتل على يد أخته غير الشقيقة «ست الملك»، لأسباب شخصية وأخرى تتعلق بأمور الحكم؛ إذ حاول «الحاكم بأمر الله» تغيير نظام الحكم من الوراثة المعمول بها التى أقرها الفاطميُّون فى حكمهم إلى اختيار شخص آخر قيل إنه ابن عمه «عبد الرحيم ابن إلياس»، أو واحد من أتباعه. فيذكر «ابن تَغرى» أن «ابن الصابئ» وغيره ذكروا: «إن الحاكم لما بدت عنه هٰذه الأمور الشنيعة استوحش الناس منه. وكان له أخت يقال لها «ست الملك» من أعقل النساء وأحزمهن؛ فكانت تنهاه وتقول: يا أخى، احذر أن يكون خراب هٰذا البيت على يديك! فكان يسمعها غليظ الكلام، ويتهددها بالقتل… ». ويستكمل «ابن الصابئ» أن «الحاكم بأمر الله» أرسل إلى «ست الملك» يتهمها بأفعال غير أخلاقية؛ ما جعلها تتفق هى و«سيف الدولة بن دَوّاس» أحد شيوخ «كُتامة» على التخلص من أخيها «الحاكم» فى أثناء خروجه ليلاً كعادته؛ وقد كان لها ما دبرته.
ثم أعلنت «ست الملك» على الشعب خبر غيبة الحاكم، وأخذت تبايع ابنه ولقبته «الظاهر لإعزاز دين الله»، وكان ذٰلك عام 411هـ (1020م). أمّا «الكنيسة القبطية» فى ذٰلك الزمان، فقد كان يرأسها «البابا فيلوثاؤس» (979- 1004م) الذى خلفه على الكرسىّ المَرقسىّ البابا «زخارياس» (زكريا) الرابع والستون فى بطاركة الإسكندرية. و… والحديث فى «مِصر الحلوة» لا ينتهى!
الأُسقف العامرئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى