تكلمنا فى المقالة السابقة عن بداية حكم دولة البطالمة فى مِصر بحكم «بطليموس الأول» مِصر وحتى بَدء حكم «بطليموس الرابع». ونستكمل اليوم فترة حكم «بطليموس الرابع والتى ساد مِصر فيها الضعف والانحلال.
ح. بطليموس الرابع
كان «بطليموس الرابع» هو الابن الأكبر لـ«بطليموس الثالث»، ويذكر المؤرخون عنه أنه قاد البلاد إلى الهاوية. ومع نهاية حكمه وصلت البلاد إلى درجة تدهور مخزية. فقد كان هو بداية لسلسلة من الملوك المستبدين القساة. فقد كان الحكم فعلياً لوزيره الطاغية «سوسيبيوس» الذى ترك للملك الأموال الطائلة للصرف فى المسرات حتى ينشغل عن الحكم. وقد اهتم الملك بنفسه وبالاستمتاع بأمور الحياة مهملاً أمور مِصر وأحوالها، فابتعد عن أمور الدولة وشؤونها، وكان لا يقابل موظفى ديوانه إلا نادرًا، ولا يعلم شيئًا عن حكم البلاد أو موظفيها أو جيشها.
كذلك حرِص الوزير على إبعاد الملك عن كل ناصحيه الأمناء من أهل المعرفة، حتى لا يكتشف حقيقة الأمور واستبداده وفساده فى الحكم. بل إنه زاد على ذٰلك بأنه زرع الشكوك فى قلب الملك فى كل من حوله، حتى إنه كلما ارتاب فى شخص ما أمر بقتله. وقد تعددت ضحاياه بسبب وزيره، ومنهم «ليزيماكوس» عمه الذى قُتل على يده، ثم أخوه «ماجاس»، وأمه «برنيكى»، وأيضًا «كليومنيس» ملك إسبرطة الذى لجأ إلى أبيه «بطليموس» الثالث، وأخيرًا زوجته «أرسنوى الثالثة» التى قُتلت بعد موته بمشاركة هذا الوزير. وفى عصره بدأت الفتن وإراقة الدماء فى البلاد.
لجأ «كليومنيس» ملك إسبرطة إلى «بطليموس الثالث» ليرد إليه إرثه عن أبيه والذى استولى عليه ملك مقدونيا. ولكن مات «بطليموس الثالث» دون أن يُنفذ عهده له، فطلب إلى «بطليموس الرابع» إعانته، ولكن «بطليموس» رفض أن يُعِينه خوفًا من الضرر الذى قد يعود على مصر. غضب ملك إسبرطة، واستغل الوزير سوسيبيوس هذا الأمر ووشى بملك إسبرطة متهمًا إياه بإثارة الفتنة فى البلاد، وبتهديده بعمل ثورة فى الجيش، من خلال الجنود المرتزقة إذا لم يساعدوه على استعادة ملكه. فأمر الملك باعتقاله، وأقام الحرس عليه فى بيت عظيم. غضب ملك إسبرطة، وتحيَّن الفرصة فجمع أتباعه وهرب مناديًا فى شوارع الإسكندرية بالثورة والعصيان على «بطليموس»، فلم يهتم أحد. فاتجه إلى قلعة الإسكندرية لإخراج من بها لمساندته، ولكنْ هزمه جنود القلعة ومات. وحينما علِم بطليموس، أمر بصلبه ميتًا وذبْح زوجته تحته.
أيضًا قام ملك سوريا لقتاله لاستعادتها من مِصر، فسار إلى أنطاكية واستولى عليها، ثم اتجه إلى الشام. وبعد محاولات وخيانة لـ«بطليموس» سُلِّمت مدينتا فينيقيا وسوريا الجوفاء إلى ملك سوريا. وحينما علِم بطليموس، أعد الجيش وأرسله لاستعادة ما فُقد، ولكنه هُزم شر هزيمة. فقام بطليموس ووزيره بخداع ملك سوريا بعمل معاهدة أربعة شهور، خلالها درَّب الجيوش استعدادًا للحرب، حيث قرر البطالمة ـ أول مرة ـ ضم المصريين إلى الجيش وتدريبهم. وبفضل أبناء مصر انتصر «بطليموس» فى الحرب فى مدينة رفح انتصارًا ساحقًا. وكانت هذه هى بداية ظهور المشاعر الوطنية المصرية أمام الإغريق. وبدأت الثورات الوطنية والاضطرابات تندلع فى البلاد من عهد «بطليموس الرابع» وفى العهود التالية كافة، بدءًا من الوجه البحرى وحتى الوجه القبلى وصعيد مصر.
ففى معركة رفح قاد «بطليموس الرابع» الجيش، واصطحبته فى الحرب أخته وزوجته «أرسنوى الثالثة» التى أصرت على أن تكون بجواره وقت الشدة. وبانتصار الجيش المصرى بأبنائه المصريين فى رفح، اضطُر ملك الشام إلى عقد معاهدة مع مِصر. وفى هذه الحرب وصل «بطليموس» إلى يافا، ثم القدس ورغب فى أن يشاهد ما فى الهيكل اليهودى والدخول إلى قدس الأقداس، فثارت المدينة كلها عليه. ويُقال إن الملك غضب على اليهود، حتى إنه أمر بقتل كل اليهود بالإسكندرية فتم القضاء عليهم إلا من استطاع الاختفاء.
وعندما عاد بطليموس الرابع إلى مِصر بعد معركة رفح، عاد إلى حياة اللهو والعبث فضعف ومات.
ط. بطليموس الخامس
أُعلِن موت الملك والملكة، وقد كان هذا أمرًا مريبًا للشعب، مما جعل شعب الإسكندرية فى حالة ثورة وحزن شديدين، وبخاصة لموت الملكة، فى حين لم يُعيروا موت الملك أدنى اهتمام. كما زادت كراهية الشعب لأسرة «أجاتوكليس» بسبب قتل الملكة.
أصبحت أسرة «أجاتوكليس» هى الحاكمة فى البلاد دون منازع باسم الطفل «بطليموس الخامس». وقد قام «أجاتوكليس» بمحاولات لتهدئة الأمور الداخلية من خلال: كسب مودة الجنود بإغداق الأموال عليهم، وإبعاد «فيلامون» ـ الذى أشرف على قتل الملكة ـ بتعيينه حاكمًا خارج البلاد، وتنشئة الملك الطفل تحت رعاية أمه وأخته، وإبعاد كل الرجال البارزين الذين يخشى معارضتهم إياه بسبب ما يعرفونه عنه، وبث عيونه فى كل مكان لكشف ما يحاك من مؤامرات ضده أو ما يقال عنه، مثل قتله شخصًا يُدعى «دينون» ـ اشترك فى جريمة قتل الملكة ـ بسبب حديثه مع الشعب عن أسرار مفزعة بِشأن هذه الجريمة.
وهكذا سيطر «أجاتوكليس» على مِصر بكل ظلم وتسلُّط وتجبُّر، وكان الشعب ينتظر من يمكنه قيادة ثورتهم ضده. إلى أن ظهر القائد «تليبوليموس» والذى عمِل على استمالة الجنود إليه. وعندما أدرك «أجاتوكليس» هذا، أشاع أن القائد خان البلاد وأنه سيسلمها إلى ملك سوريا، ولكن الشعب لم يصدقه، فحاول استمالة الشعب والجنود إليه فلم يستطِع. وعندما شعَر القائد «تليبوليموس» بتطور الأمور ضد الوصى على الملك، أسرع بتعجيل الثورة ـ التى كادت أن تنفجر ـ بمنع وصول الطعام إلى الإسكندرية. وقد ساعد على اندلاع الثورة ما قام به «أجاتوكليس» نفسه، إذ قبض على أشخاص ظن أنهم على اتصال بالقائد الثائر، ومنهم: حاكم مدينة «بوبسطة»، ـ والذى قام بتعذيبه للاعتراف بمؤامرة يحيكها ضده فثار الشعب ـ وأيضًا القائد «موراجين» الذى هرب عاريًا ـ قُبيل وضعه على آلات التعذيب ـ إلى معسكر قريب للجنود الذين ثاروا وثارت معهم المدينة كلها محاصرين القصر مطالبين برؤية الملك.
قام الجنود بمحاولة الوصول إلى الملك، وعندئذ شعَر «أجاتوكليس» بالخطر، فأعلن استعداده للتنازل عن وصاية الملك وسلطته هو وأقاربه وكل ما يملك مقابل حياته. ولكن الشعب رفض، مطالبين بالمَلك. وعند رؤية الشعب للملك، فرِحوا وأجلسوه على العرش وطالبوا بالقصاص من المجرمين. وفى أثناء هذا ظهر أحد أتباع «أجاتوكليس» ووبخ الشعب على موقفهم منه، فما كان من الثائرين إلا أن قتلوه، وبدأت مذبحة لم تنتهِ إلا بعد قتل «أجاتوكليس» بالحِراب، ثم قُتل «نيكون» القائد وأحد أقاربه، وقُتلت أخته ومعها أخواتها وكل أفراد أسرتها، أعقبه قتل أمه المتجبرة.
بعد القضاء على «أجاتوكليس» وأسرته، قام الشعب بتعيين «تليبوليموس» وصيًا على الملك. ولم يكُن عند حُسن ظن الشعب به، فقد كان مغرورًا وإداريًا فاشلاً فى تصريف أمور الدولة. واستولى على الأموال من خِزانة الدولة للصرف على نفسه وأصدقائه فى الولائم واللهو. لم يهتم بإدراة شؤون البلاد ففقدت مِصر أملاكها فى الخارج. وفى حالة الضعف هذه، اتفق كل من ملك سوريا وملك مقدونيا على الاستيلاء على ممتلكات مِصر بل اقتسام مِصر فيما بينهما. وبالفعل فقدت مِصر كل أملاكها فى آسيا الصغرى ـ ما عدا «أفسس» ـ بالإضافة إلى سوريا الجوفاء.
وفى ظل هذه الأحداث، شعَر المصريون بالخجل من ضياع ممتلكات مِصر، وأدركوا أنهم وضعوا ثقتهم فى غير موضعها عندما نصّبوا «تليبوليموس» وصيًا على الملك وأساء التدبير. فغضب الشعب عليه، وعُزل وعُيِّن مجلس وصاية من شخصين: «أريستومين»، و«سكوبوس».
قام «سكوبوس» بالتجهيز لاستعادة سوريا الجوفاء وحقق انتصارات فى بادئ الأمر، ولكنها لم تكُن بسبب كفاءته أو حسن قيادته، فسرعان ما هُزم شر هزيمة وعاد إلى مِصر وهو ممتلئ بالغيظ. حاول بعدها مع أتباع له عمل انقلاب على الوصى الثانى «أريستومين»، والذى أدرك ما يُعد له من مكائد، فقام بمراقبته وقدمه إلى محاكمة عادلة أدانته هو وكل من شاركه وأُعدموا. وبهذا عاد السلام والهدوء الإسكندرية.
تتويج «بطليموس الخامس» ملكًا فرعونيًا على مِصر
تُوِّج «بطليموس الخامس» فِرعَونًا على مِصر بالطريقة المِصرية القديمة، وهى المرة الأولى فى عهد البطالمة التى يجرى فيها تتويج الملك فِرعَونًا، وذلك بهدف استرضاء الشعب ورجال الدين حتى تُخمد ثوراتهم. فقد كانت الأمور فى عهد «بطليموس الخامس» دقيقة، لفقد مِصر أملاكها فى الخارج، واشتعال نار الفتنة فى الداخل منذ موقعة رفح، وشعور المصريين بعزتهم وهُويتهم المِصرية، وقد ظهر بطلان مِصريان أسسا مملكة فى إقليم طيبة. وقد أرسل الملك جيشًا ضد الثوار لمحاصرتهم، وبعد فترة لم يجدوا حلاً سوى الاستسلام بعد أن أعطاهم الملك الأمان فسار إليه زعماؤهم، ولكنه نكث عهده وعاملهم بقسوة بالغة.
فى بَدء حكم بطليموس الخامس كان يكِنّ كل محبة لـ«أريستومنيس» الذى أدار البلاد بكل حكمة واقتدار ولا يفعل شيئًا إلا بمشورته، إلى أن أفسد العَلاقة بينهما تدخل بعض الأصدقاء المغرِضين، وهو ما تسبب فى كراهية «بطليموس» تجاه «أريستومنيس»، حتى إنه حكم عليه بالإعدام بتجرع السم.
خلف «أريستومنيس» شخص يُدعى «بوليكرانتيس» وكان نائبًا للملك فى قبرص. لكنه لم يكُن كفئًا لهذا المركز، فقد كان ينصح الملك بما يتفق وأهواؤه وميوله. وفى هذه الفترة حكم «بطليموس» مِصر بقسوة ووحشية، مما جعل المصريين يكرهونه.
وقد مات «بطليموس الخامس» فجأة وهو يُعِد العُدة لمهاجمة ملك سوريا، وقيل إنه مات بالسم. وتولى بعده «بطليموس السادس» و… والحديث عن مِصر لا ينتهى…!