تحدثنا فى المقالة السابقة عن «بطليموس الرابع»، وكيف أن المؤرخين اعتبروه أول من قاد البلاد إلى الهاوية، وإلى درجة مخزية من التدهور؛ فقد كان هو بداية لسلسلة من الملوك المستبدين القساة، ثم تحدثنا عن «بطليموس الخامس»، الذى حكم مِصر بوحشية وقسوة، ومات فجأة وهو يُعد العُدة للحرب ضد سوريا. ى- بطليموس السادس هو الابن الأكبر لـ«بطليموس الخامس»، الذى تولى عرش مِصر من بعده، وقد كان عمره آنذاك ما بين الخامسة والسادسة؛ لذا أصبحت أمه «كليوباترا» هى الوصى على العرش. اهتمت الملكة «كليوباترا» برعاية أبنائها الثلاثة بنفسها، ولم تسمح لأحد بإدارة شؤون البلاد الداخلية والخارجية، وقد قامت بدورها على أحسن وجه؛ فقد اتبعت سياسة زوجها فى إعلاء مصلحة مِصر، وعدم الزج بها فى الحروب؛ خاصة حينما حاولت سوريا استمالتها للانضمام إليها فى مواجهة أعدائها، كما أنها عملت على حفظ العرش وحكم مِصر للملك الصغير بتحالفها مع روما. إلا أنه بعد وفاة «كليوباترا» أصبح «يولاوُس» و«لِناوُس» وصيَّين على الملك الصغير، وقد استخدما كل مكر ودهاء لصرف الملك عن شؤون المُلك وإدارة البلاد، وحرصًا منهما على استمرار الحكم فى أسرة البطالمة، فقد أعلنا تقليد «بطليموس السادس» حكم البلاد، وزواجه من أخته «كليوباترا الثانية» بمجرد بلوغه السن القانونية! الحرب ضد سوريا بدأ ملك سوريا يستعد لاستعادة منطقة «سوريا الجوفاء» المتنازع عليها بين سوريا ومِصر؛ التى كانت مهرًا لـ«كليوباترا الأولى»، ابنة ملك سوريا ـ زوجة «بطليموس الخامس» ـ بعد وفاتها، وقد قام الوصيان على العرش بالاستعداد للحرب ضد سوريا، والتهديد باحتلالها، وقد استغل ملك سوريا القيام ببعض العمليات الحربية الصغيرة ليُظهر للرأى العام العالمى أنه يدافع عن بلاده، مشتكيًا إلى مجلس شيوخ روما هجوم مِصر على بلاده دون وجه حق. استغل ملك سوريا تهديدات الوصيَّين على العرش بالحرب، فأسرع بجيشه الجبار المدرب للزحف على مِصر. رأسَ الجيش المصرى الوصيان على العرش، إلا أنهما هُزما شر هزيمة، ووقع الجيش المصرى أسيرًا فى يد ملك سوريا، وذلك لعدم درايتهما بفنون الحرب، ولأنهما لم يستعنا بقائد ماهر، لاستشارته خلال الحرب، وقد دخل ملك سوريا مِصر دخول المنتصرين محاطًا بالجنود والعربات والفيلة. اتجه ملك سوريا إلى القصر الملكى، والتقى «بطليموسَ السادس»، ملكَ مِصر وابن أخته، مقدِّمًا إليه معاهدة، وطالبًا أن يضع نفسه رسميًا تحت وصايته. مِصر تحت حكم ملك سوريا ذهب ملك سوريا إلى منف ليتوج نفسه ملكًا على مِصر، ثم قام بتخريب البلاد، ونهب كل ثرواتها، ولم يغادرها إلا عند وصول أخبار باندلاع فتنة فى بلاد اليهود؛ فأسرع بالذهاب لإخمادها. خلال هذه الفترة، اعتبر شعبُ الإسكندرية أن المعاهدة، التى وقع عليها «بطليموس السادس» مخزية لمِصر، فقاموا بثورة أعلنوا فيها سقوط الملك، وتنصيب أخيه «إيرجيتيس الثانى» ملكًا على مِصر، وقد اتخذ الملك الجديد وزيرين، اللذين أسرعا بإعلان توليه عرش الملك. وقد أثارت هذه الأحداث غضب ملك سوريا؛ فأعلن الحرب على شعب الإسكندرية، مذيعًا أنه سيحارب الثوار لإعادة الملك الشرعى «بطليموس السادس» إلى عرشه، وفى أثناء هذه الأحداث كانت روما منشغلة بحروبها ضد ملك مقدونيا. زحف ملك سوريا إلى الإسكندرية، وفى الطريق كان يلقاه رسل من دول العالم قد أُرسلوا للصلح بين الفريقين، وقد كان ملك سوريا من الدهاء أنه استطاع كسب كل من لقِيه إلى صفه، وكذلك أعلن استعداده المفاوضات، وعندما وصل إلى الإسكندرية قام بحصارها، إلا أن «إيرجيتيس الثانى» كان قد أرسل رسلاً إلى روما يطلب منهم التدخل لإيقاف ملك سوريا، وقد انتهى الأمر باقتسام الحكم بين الأخوين؛ فقد عاد «بطليموس السادس» ملكًا على منف و«إيرجيتيس الثانى» ملكًا على الإسكندرية، وقرر ملك سوريا العودة إلى بلاده، معتقدًا أن قيام حرب أهلية بين الأخوين ستكون كفيلة بالقضاء على قوى مِصر. إلا أن الأمور لم تسِر هكذا؛ فقد أخذ «بطليموس السادس» يتقرب إلى أخيه «إيرجيتيس الثانى»، كما كان لـ«كليوبترا الثانية» أختهما وزوجة الملك «بطليموس السادس» دور بارز فى إعادة السلام، والتفاهم بين الأخوين إلى أن اتفقا على حكم مِصر سويًا، وبهذا عاد «بطليموس السادس» إلى القصر الملكى فى الإسكندرية ليحكم الأخوان معًا؛ مما أدى إلى نشر السلام فى ربوع البلاد. لم يرقَ هذا الأمر لملك سوريا وغضِب غضبًا شديدًا؛ فزحف بجيشه إلى مِصر. فأرسل إليه «بطليموس السادس» رسلاً للتفاهم معه، فوضع شروطه، وهى: تنازل مِصر عن قبرص، وبلدة بلوز، والأقاليم المجاورة لها. فى تلك الآونة، حاول «بطليموس» كسب بعض الوقت لإعداد جيش لمواجهة ملك سوريا لكنه فشِل، ولم يجد سبيلاً إلا اللجوء إلى روما لرد ملك سوريا عن مِصر، وقد أرسلت روما بَعثة إليه تطلب منه التراجع فى الحال عن مِصر، مما اضطره إلى الرحيل، خوفًا من مواجهة روما. حُكم «بطليموس السادس» و«إيرجيتيس الثانى» و«كليوباترا» مِصر كان يحكم مِصر ملكان وملكة، وكان هناك توافق وسلام باديان فى الأفق بينهم، وقد استمر هذا الحكم خمس سنوات، ولكن يبدو أنه كان يخفى صراعًا أدى إلى نزاع مرير بين الأخوين؛ حتى إن «إيرجيتيس الثانى» انتهز الفرصة، وقام بطرد أخيه «بطليموس السادس» من الإسكندرية بالقوة. وقد وصلت الأمور إلى هذه الدرجة بعد ظهور شخص فى البلاط الملكى يُدعى «بتوسرابيس»، الذى لعِب دورًا كبيرًا فى إشعال نار الفتنة بين الأخوين، مستغلاً محبة الشعب للأخ الأصغر. فقد قام «بتوسرابيس» هذا بإثارة الشعب ضد «بطليموس السادس» حتى كاد يفقد حياته، ولكن فشِلت محاولته، ثم أخذ يضم الجنود الوطنيين الرافضين حكم البطالمة من حوله، مستخدمًا توقهم الشديد لأن يكون حكم مِصر لشخص مِصرى، إلا أنه هُزم هو ورجاله وهرب إلى قرى مِصر. وفى القرى، جمع حوله الكثير من الشعب للقيام بثورة ضد الملك. فذهب الملك «بطليموس السادس» على رأس جيش لمواجهة الثوار، وحاصرهم حتى استسلموا له، وعند عودة «بطليموس» إلى الإسكندرية بعد القضاء على الثورة، لم يستطِع دخول المدينة؛ فقد قام أخوه «إيرجيتيس الثانى» بالاستيلاء على الحكم بمفرده ـ منتهزًا انشغال «بطليموس» بإخماد الثورة ـ ومنَع دخوله الإسكندرية. لم يجد «بطليموس السادس» وسيلة لاسترداد ملكه إلا باللجوء إلى روما، فسافر ليشكو أخاه أمام مجلس شيوخ روما؛ الذى نصحه بالذهاب إلى قبرص، وانتظار ما سيسفر عن الأحداث. وبطرد «بطليموس السادس» من مِصر، والاستحواذ على كل مقاليد الحكم ظهرت الشخصية الحقيقية للملك «إيرجيتيس الثانى»؛ فقد كان ممتلئًا من الشر والبغضة والانتقام من كل رجال البلاط الملكى الموالين لأخيه، ثم زادت وحشيته وقسوته تجاه الشعب؛ الذى استشاط غضبًا من الظلم الواقع عليه، فقاموا بثورة عارمة، وأرسلوا فى استدعاء «بطليموس السادس» من قبرص، وبعد عودته قُسّم الحكم بين الأخوين بمعرفة روما، فحكم «بطليموس» مِصر فى حين حكم أخوه مدينة «سيرينى» الواقعة على الساحل من إقليم برقة الليبى. وما إن حكم «إيرجيتيس الثانى» إلا وبدأ يشكو مدى الظلم الواقع عليه جراء اتفاقية تقسيم الحكم، وأخذ ينادى بظلم التقسيم حتى أرسلت روما مبعوثها للصلح بين الملكين. استمر «إيرجيتيس الثانى» فى شكواه، وذهب إلى مجلس شيوخ روما، مطالبًا بضم قبرص إليه؛ فكان حكم مجلس الشيوخ: إرسال مبعوث لإعادة السلام بين الأخوين، وإعطاء الأخ الأصغر قبرص. فى ذلك الوقت، قامت «سيرينى» بثورة ضد الحاكم الطاغية الذى عاد سريعًا لإنقاذ مُلكه، ثم وصله رد أخيه «بطليموس السادس» برفضه تغيير المعاهدة، وعدم تنازله عن قبرص. ونتيجة رفض «بطليموس السادس» قرارَ مجلس شيوخ روما بالتنازل عن قبرص لأخيه، أرسلت روما رسالة إلى «بطليموس السادس» تعْلمه فيها أنه لم يعُد حليفًا أو صديقًا لشعب روما و… والحديث عن مِصر لا ينتهى!