تحدثنا فى مقالة سابقة عن خلافة «يزيد بن معاوية بن أبى سفيان» بعد موت أبيه، ثم حادثة كربلاء وموت «الحسين»، ودعوة «الزبير بن العوام» لنفسه بالخلافة فى «مكة»، ومبايعة أهل «تُهامة» و«الحجاز» ما أثار «يزيد»، فأرسل جيوشه إلى «مكة»، وفى أثناء التقاتل وصل خبر موت «يزيد بن معاوية»، فانصرفت الجيوش إلى «الشام». تولى الخلافة من «يزيد» ابنه «معاوية» الذى خلع نفسه برغبته، ومن بعده «مروان بن الحكم». وقد كان البابا البطريرك آنذاك هو البابا «يوحنا الثالث» الذى استعاد الكنائس الأرثوذكسية بعد أن أغلقها الملكانيُّون.
«مروان بن الحكم» (٦٨٣-٦٨٥م)
بايع أهل الشام «مروان بن الحكم»، فى حين قام أهل «مكة» و«البصرة» و«الحجاز» و«اليمن» و«العراق» بمبايعة «عبد الله بن الزبير»؛ أمّا بنو أمية فلم يقبلوا به وانقسموا إلى فرقتين: إحداهما بايعت «مروان»، والأخرى بايعت «الضحاك بن قيس»؛ وانتهى الأمر بهزيمة «الضحاك» واعتلاء «مروان» الخلافة؛ وبعد أن استقرت له الأمور بالشام، سار إلى «مِصر» وكان «عبدالرحمٰن بن جحدم القرشيّ» واليـًا عليها واستطاع أن يفوز بمبايعة الناس له وولّى ابنه «عبدالعزيز» على «مِصر».
وفى عام ٦٨٤م، بايع ولديه «عبدالملك» و«عبدالعزيز» الخلافة، وكان سبب ذٰلك أن وصلته كلمات «عمرو بن سعيد بن العاص» فى أن الخلافة ستكون له من بعد «مروان». ومات «مروان بن الحكم»، وتولى الخلافة من بعده ابنه «عبدالملك». ويذكر بعض المؤرخين أنه مات مخنوقـًا بيد زوجته أم «خالد بن يزيد»، ويذكر البعض الآخر أنه مات بالطاعون.
وُلاة «مِصر»
عبد الرحمٰن بن جحدم (٦٨٣-٦٨٤م)
تولى وِلاية «مِصر» من قِبل «عبد الله بن الزبير» فى عام ٦٨٣م، واستمرت مدة تسعة أشهر حتى انتزعها منه الخليفة «مروان بن الحكم» وولّى عليها ابنه «عبد العزيز بن مروان». فقد نمى إلى علم «عبدالرحمٰن» تحرك «مروان بن الحكم» نحو «مِصر» فقرر حربه ومنعه، فحفر خندقـًا حول «الفسطاط» فى شهر ـ الذى ما يزال إلى اليوم فى مقبرة «الفسطاط». وعندما وصل «مروان» إلى «عين شمس»، حاربه «عبد الرحمٰن» يومـًا أو يومين، ثم رجِع بجيشه إلى الخندق. وكانوا يتقاتلون مرة ثم يخرج غيرهم للقتال. وقد تسببت الحرب فى قتل كثير من أهل «مِصر» ومن أهل «الشام» حتى دخلها «مروان» عام ٦٨٤م. وقد ذُكر فى بعض الأحاديث أن «مروان» قضى فى «مِصر» شهرين ثم جعل ولايتها لابنه «عبدالعزيز»؛ وقد سأله «عبدالعزيز»: «يا أمير المؤمنين، كيف المقام ببلد ليس به أحد من بنى أبى؟ فقال له مروان: يا بُنيّ، عُمَّهم (اشمَِلهم) بإحسانك يكونوا كلهم بنى أبيك، واجعل وجهك طَلْقـًا (مُشرقـًا ضاحكـًا) تَصْفُ لك مودتهم، وأوقِع إلى كل رئيس منهم أنه خاصتك دون غيره يكُنْ عينـًا لك على غيره ويَنقَدْ قومه إليك؛ وقد جعلتُ معك أخاك بشرًا مؤنِسـًا، وجعلتُ لك «موسى بن نصير» وزيرًا ومشيرًا. وما عليك، يا بُنيّ، أن تكون أميرًا بأقصى الأرض؛ أليس ذٰلك أحسن من إغلاق بابك وخمولك فى منزلك؟».
عبد العزيز بن مروان (٦٨٤-٧٠٤م)
تولى وِلاية «مِصر» عشرين سنةً تقريبـًا، وقد تعددت صفاته، كما يذكر المؤرخون، فاشتُهر بالجود والكرم. وفى عام ٦٨٦م، بنى دارًا للإمارة سميت «الدار المذهَّبة»، وجعل لها قبة مذهَّبة، ومن عظمتها دُعيت «المدينة»، وهى فى «سوق الحمام». وقد اعتلَّت صحة الوالى «عبد العزيز»، فنصحه الأطباء بالإقامة فى «حُلوان» للاستشفاء، فقضّى فترة فى «دير أبى السيفين» بـ«طموه» الذى يقع مقابل «حُلوان»، وشُفى سريعـًا من مرضه فازداد إعزازه بالرهبان.
استقر رأى «عبد العزيز» على جعل «حُلوان» مقرًًّا له فأمر مهندسيه بتخطيطها؛ فحفر «عين حُلوان»، وبنى المساجد والأسواق، ونقل إليها بيت المال الذى كان الأمين عليه رجل قبطيّ يسمى «أنتِناس». كذٰلك بنى فى «حُلوان» القصور الفخمة، وكلّف أغنياء الأقباط ببناء ديار لهم فيها، وأمر الأب البطريرك ببناء كنيسة ليحبِّب السكنى فيها. وقد أنشأ فى «حُلوان» قناطر معلقة لتصلها المياه من عيون «المقطم»، وغرس بها الأشجار والنخيل، ثم اتخذها مكانـًا للحكم بعد أن تعرضت «مِصر» فى أيامه لانتشار داء الطاعون فى عام ٦٨٩م.
البابا «يوحنا الثالث» (٦٧٧-٦٨٦)
كان البابا «يوحنا الثالث»، الأربعون فى بطاركة الإسكندرية، يتصف بالفضائل الحسنة والمحبة ومسالمة جميع الناس حتى ذاع صيته عند الجميع؛ فأحبه العظماء وأكرموه. وكان جزيل العطاء وكثير الصدقات؛ حتى إنه فى زمان الغلاء الذى تعرضت له البلاد ثلاث سنوات اهتم بالفقراء؛ فكان الله يساعده على تسديد حاجاتهم من الطعام والشراب؛ ولولاه لهلك الفقراء من شدة الجوع!
وفى أيام ولاية «سعيد بن يزيد» على «مِصر»، ذهب الوالى إلى «الإسكندرية»، ولم يصل نبأ وصوله إلى البطريرك فلم يستقبله؛ فتدخل بعض المفسدين والأشرار، وكان منهم «ثاوفانيس» رئيس مريوط الملكانيّ، ووشَوا به إلى الوالى مدعين أن كبرياء البطريرك أو ماله الوفير أو تبجحه منعه من استقبال الوالى فى «الإسكندرية». غضِب الوالى غضبــًا شديدًا، وطلب من البطريرك دفع مبلغ كبير من المال، ولم يكُن له ما يُوفى به. فتدخل الكتاب الأقباط لدى الوالى، وطلبوا إليه أن يستحضر الأب البطريرك ليستمع إلى قوله، وقد عقدوا العزم على جمع المال المطلوب. وعندما شاهد الوالى البطريرك، رق لحاله ووداعته؛ فطلب له وسادة ليجلس عليها، وطلب منه أن يقدِّم إليه ما سيجرى جمعه من المال قائلـًا: «كل ما دفعه لك النصارى فادفعه لى، ولا أطلب منك سواه». فأشار الموظفون على البابا أن يقبل الأمر فقبله، وخرج البطريرك بكرامة من عند الوالى. أمّا «ثاوفانيس» هٰذا، فقد عذبه الوالى، ثم قتله بعد أن كثرت فضائحه.
وفى أثناء ولاية «عبد العزيز بن مروان» لمِصر، أعطى الله البابا «يوحنا الثالث» نعمة فى عينى الوالي؛ فأمر فى جميع المدينة بأن لا يخاطب أحد البطريرك إلا باللين، ولا يذكر فيه أحد أمامه أمرًا رديئــًا، ولا يتعرض له أحد فى الدخول أو الخروج. وفى ذٰلك الزمان، اهتم البابا ببناء كنيسة على اسم مار «مرقس الرسول». وفى آخر أيامه، أصيب بمرض «النقرس» الذى كان يسبب له آلامــًا شديدة. وفى أحد الأيام، رافق البطريرك الوالى من «الإسكندرية» إلى «مِصر»؛ وعندما وصلا تعِب البطريرك، فحزِن الوالى عليه وأرسل الكُتاب لمعاونته؛ فنُقل إلى «الإسكندرية» ودخل كنيسة مار «مرقس الرسول» ليصلى فيها؛ ثم اعترته غيبوبة استمرت بضعة أيام حتى تنيح فى ٦٨٦م.
وفى أثناء حياة البابا «يوحنا الثالث»، أرشده الله إلى راهب حسن السيرة من «دير أنبا مقار» يُدعى «إسحاق»؛ فاستحضره البطريرك أمامه وطلب منه أن يقوم بنسخ أحد الكتب، فلم يؤدِّ مهمته جيدًا عن قصد إذ كان لا يرغب فى تعيينه بأيّ وظيفة! فلما علِم البابا بنيته وما يَرمى إليه، وضعه فى رعايته، وأسند إليه بعض المهام فى الكنيسة. فرعاه البابا، ومن حسن خدمته واجتهاده أشركه معه فى الخدمة. و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطىّ الأرثوذكسىّ