بدأنا فى المقالة السابقة الحديث عن «بطليموس السادس» ومحاولة ملك سوريا وخاله فى الوقت نفسه حكم مِصر من خلال اتفاقية مخزية رفضها الشعب المِصرى وإعلان أخيه «إيرجيتيس الثانى» أنه حاكم لمِصر بدلاً منه، وكيف أن محاولات السلام والتوفيق بين الأخوين أفلحت فى ذٰلك الوقت فى حكم مِصر من خلال حكم ملكين وملكة للبلاد، ثم قيام «إيرجيتيس الثانى» بمنع أخيه من دخول الإسكندرية وتدخل روما للتوفيق بين الأخوين. وأخيرا إعادة «بطليموس السادس» بمطلب شعبى إلى حكم مِصر بعد أن أدرك الشعب ظلم «إيرجيتيس الثانى» وفساده.
ووُلِّىَ «إيرجيتيس» حكم «سيرينى» بحسب المعاهدة مع أخيه، ولٰكنه طلب تغييرها بعد ذٰلك بضم «قبرص» إلى حكمه. ولكن لم يلقَ هٰذا الطلب قَبولاً لدى «بطليموس السادس»، ومع تدخل روما إلا أنها لم تستطِع التأثير فيه لقَبول تغيير المعاهدة؛ حيث إن هٰذا يُعد حقًا من حقوقه.
وما كان من مجلس الشيوخ الرومانى إلا أن أرسل إلى «بطليموس السادس»ـ إثر رفضه تغيير المعاهدةـ رسالة تقول إنه لم يعُد حليفًا أو صديقًا لروما وشعبها، ولٰكن «بطليموس السادس» لم يهتم بالأمر كثيرًا.
فى أثناء ذٰلك، كان «إيرجيتيس الثانى» قد أعد جيشًا للاستيلاء على «قبرص» معتمدًا على مساندة روما إياه، إلا أن الأمور لم تَسِر على ما يرام.
فقد كانت هناك محاولات أخرى من ملك سوريا للاستيلاء على «قبرص» بمساعدة وخيانة حاكمها، إلا أن «بطليموس السادس» انتبه للأمر. كذٰلك كان هناك رفض عارم من أهالى «قبرص» إزاء أن يكونوا تحت الحكم الظالم لـ«إيرجيتيس الثانى»، وفى الوقت نفسه كانت روما قد بدأت تستشعر حرج موقفها فى مساندة فريق ـ ليس لديه كل الحق ـ على حساب فريق آخر، فآثرت الابتعاد والتراجع عن المشهد.
ولم يجِد «إيرجيتيس الثانى» بعد كل هٰذه الأحداث سوى أن يتوارى عن المشهد السياسى، متحينًا الفرصة للاستيلاء على قبرص. وفى تلك الفترة الزمنية، عاشت مِصر فى هدوء وأمن وسلام. واهتم «بطليموس السادس» بأمور البلاد وبنائها.
ظل «إيرجيتيس الثانى» يتحين الفرصة للاستيلاء على «قبرص»، فاستغل تعرضه لحادث ليذهب إلى روما شاكيًا ومتهمًا أخاه بمحاولة قتله. وقد كانت هٰذه هى الفرصة المواتية لروما لاستخدام هٰذا الحادث للتشهير بـ«بطليموس السادس»، وإظهاره أمام الرأى العام العالمى مجرمًا حاول قتل أخيه. ثم قامت روما بإرسال سفرائها مع «إيرجيتيس الثانى» لتتويجه ملكًا على قبرص.
وعندما علم «بطليموس السادس» بما حدث رفض الانصياع إلى مطلب روما وتسليم «قبرص»، وقام بتحصينها مستغلاً رغبة شعبها فى الاستمرار تحت حكمه من دون أخيه. كذٰلك تراجعت كل القوى التى كانت تساند «إيرجيتيس الثانى» فوقع أسيرًا فى يد أخيه. وقد كان «بطليموس السادس» ـ بحسب ما يذكر المؤرخون عنه ـ أكثر الملوك البطالمة طيبةً وأرقهم طبعًا؛ فهو لم يذكر عنه أنه قتل أحدًا قُدِّمت ضده شكاية.
لذا لم نجده ينتقم أو يثأر لنفسه من أخيه حينما وقع أسيرًا، بل عامله بكل كرم وود ومحبة متناسيًا الماضى، راغبًا فى إعلاء الأُخوة والمحبة من جديد. وقد كان لمعاملة «بطليموس السادس» الكريمة أثرها؛ إذ من ذٰلك الحين لم يجِد «إيرجيتيس» مبررًا لمعاداة أخيه، ووضَع كل اهتمامه فى شؤون بلاده.
وقد قضَّى «بطليموس السادس» سنوات هادئة فى حكم مِصر حتى بدأ يهتم باستعادة «سوريا الجوفاء» لمِصر، كما أنه كان مهتمًا بالانتقام من محاولات ملك سوريا للاستيلاء على قبرص.
وقد ساعد «بطليموسَ السادس» ظهور شخص يُدعى «بالاس» كان يُطالب بأحقيته فى حُكم سوريا. فقام «بطليموس السادس» بمساندته فى الحصول على مُلك سوريا من ملكها «ديمتريوس» الذى قُتل فى المعركة.
وعقدت معاهدة بين ملكَى مِصر وسوريا، وتزوج «بالاس» من «كليوباترا» ابنة «بطليموس السادس». وبسبب سوء إدارته البلاد لم يستمر «بالاس» فى اعتلاء عرش سوريا كثيرًا؛ فكانت هٰذه فرصة ابن «ديمتريوس» فى استعادة ملكه.
فى أثناء تلك الأحداث، غادر «بطليموس السادس» مِصر إلى سوريا؛ وهناك نقض معاهدته مع «بالاس» بعد أن اتهمه بمحاولة اغتياله. كذٰلك استعاد ابنته «كليوباترا» منه وزوَّجها ابن ملك سوريا، ووعده بإعادة مُلك والده إليه مقابل حصوله على «سوريا الجوفاء». أعد «بالاس» جيشًا لمحاربة ابن ملك سوريا فهبَّ «بطليموس السادس» لمساندته فى الحرب، إلا أنه مات جريحًا فى المعركة مع أن «بالاس» كان قد هُزم.
ك. بطليموس السابع
ورث عرش «بطليموس السادس» ابنه «بطليموس نيوس» الذى أطلق عليه البعض اسم «بطليموس السابع». وقد أرادت أمه الملكة «كليوباترا الثانية» ـ الوصى على العرش ـ أن تحفظ له الحق فى حكم البلاد واعتلاء عرشها بزواجه بأخته «كليوباترا الثالثة»! كما سعت إلى بقاء «سيرينى» منفصلة عن مِصر حتى لا يتدخل «إيرجيتيس الثانى» الذى كان يتحين الفرصة لحكم مِصر.
إلا أن الشعب كان منقسمًا بين حكم «كليوباترا» وابنها وبين عودة «إيرجيتيس الثاني» لتولى مقاليد الحكم فى البلاد.
وتدخلت روما آنذاك وأرسلت وفدًا للتوفيق بين الحزبين. وقد حُسم الأمر بعودة «إيرجيتيس الثانى» إلى الإسكندرية والاستيلاء على عرش أخيه، إلا أنه وعد بحكم ثنائى يعاون فيه الملك الصغير.
وما إن تولى الحكم وتسلم زمام إدارة شؤون البلاد، حتى بدأ فى قتل كل من يساند الملك الصغير، بعد أن قتل الملك الصغير نفسه بين يدى أمه! ـ كما ذكر بعض المؤرخين. وهنا ينقسم المؤرخون إلى فريقين: أحدهما يعتبر أن حكم «بطليموس السابع» قد انتهى بموته على يد عمه بعد بضعة أشهر، ثم بدأ حكم «إيرجيتيس الثانى» الذى أطلقوا عليه «بطليموس الثامن»، والفريق الثانى لا يضع الملك الصغير فى عداد حكام مِصر؛ وبذٰلك يصبح «بطليموس السابع» هو «إيرجيتيس الثانى».
قام «إيرجيتيس الثانى» بأعمال وحشية؛ منها تنفيذ حكم الإعدام فى عدد كبير من أعدائه، وأعمال القتل والمذابح والتعذيب التى كانت تجرى فى شوارع الإسكندرية؛ حتى إن عدد سكانها ـ بحسب قول بعض المؤرخين ـ قد قل بدرجة ملحوظة. وقد هجر الإسكندرية آنذاك علماؤها بسبب اضطهادات الملك. وقد قام الشعب غير الموالى للملك بالعديد من الثورات، إلا أنه قام بقمعها وإخمادها بالقوة والعنف. فقد كان «بطليموس السابع» ملكًا قاسى القلب، مجردًا من المشاعر والعواطف والأحاسيس؛ حتى إن كل من حوله حملوا له كراهية شديدة.
وبعد الانتقام من أعدائه وبطشه بأهل الإسكندرية، توجه إلى منف ليُتوج ملكًا هناك راغبًا فى استرضاء كهنة المعابد والمِصريين. وقد احتملت «كليوباترا الثانية» بطش الملك ومعاملته السيئة ـ لتكون ملكة شريكة فى الحكم ـ إلا أنها وجدت أن دورها يتوارى وراء سيطرة هٰذا الملك الذى لم يرتدع عن ارتكاب الجرائم وكل أمر مخزٍ؛ حتى وصلت به الأمور إلى أشدها بشاعة على الإطلاق عندما تزوج ابنة أخيه «بطليموس السادس» ـ ابنة زوجته ـ ليكون قد تزوج الأم وابنتها فى آن واحد! ومن ذٰلك الحين دُعيت الابنة «كليوباترا الثالثة».
وهٰكذا أصبح حكم مِصر فى ذٰلك الوقت لملك وملكتين ـ الأم وابنتها. وقد زادت هٰذه الأحداث السافرة من كراهية الشعب تجاه الملك، وازدياد محبة وشفقة الشعب على الملكة «كليوباترا الثانية»، التى ما زالوا يذكرون لها دورها فى صنع السلام بين الأخوين «بطليموس السادس» و«إيرجيتيس الثانى» عندما حكما معًا.
وقد كانت معاملة الملك للملكة سببًا فى قيام ثورة عليه و… والحديث عن مِصر لا ينتهى!