No Result
View All Result
أهنئ إخوتنا المسلمين في «مِصر» والعالم أجمع بـ«عيد الأضحى»، متمنيا كل خير وبركة ورخاء وسلام لبلادنا «مِصر» ملجأ الأنبياء، حفِظها الله وصانها من كل شر.
تحدثنا في المقالة السابقة عن أنواع أخرى من الشهداء وهم «الشهداء لأجل الحق»، وقدَّمنا نموذجا عنهم هو «يوحنا المَعمَدان» الذي دفع حياته ثمنًا من أجل تمسكه بالحق. واليوم نتحدث عن نوع آخر من الاستشهاد وهو «الاستشهاد من أجل الوطن».
شهداء الوطن
أمّا عن الوطن، فنرى أن محبته دائماً ما تملأ قلب كل إنسان وُلد ونشأ وتربى بين جنباته، ولذا لا يتردد في الدفاع عنه. إلا أن تاريخ المِصريِّين يقدِّم إلينا صورًا نادرة عن المِصرى الذي تعلَّم لا أن يحيا على أرض وطن يحبه فقط، بل يحمِل منذ صباه وطنًا يحيا في أعماقه، وقد عبَّر مثلث الرحمات البابا «شنودة الثالث» عن تلك المحبة العميقة في المِصريِّين تُِجاه وطنهم حين قال: إن «مِصر» ليست وطنًا نعيش فيه، بل وطن يعيش فينا». ومن منطلق هذه المحبة العظيمة، تهون حياة الإنسان إزاء الحفاظ على حرية الوطن ومجده.
تاريخ مشرِّف
يحمِل إلينا التاريخ المِصرى، منذ فجره، قِصصًا من البذل والتضحية تتشابك جميعها عبر العصور لتصنع قلادة من نور تُجسد الحب والعطاء لهذا البلد العظيم. فالمتتبع لتاريخ هذا البلد العظيم يُدرك، بما لا يدع للشك مجالًا، حرص المِصرى على حرية بلاده وعدم النيل من كرامتها. وفى تاريخ بلادنا العريق، الذي بدأ واضحًا مع قيام الدولة المِصرية المركزية في عهد الملك الفرعَونى «مينا» حتى يومنا هذا، نجد اهتمام ملوك «مِصر» وحكامها وشعبها بوطنهم. وفى عُهود السلام، كان سعى دائم للعمل من أجل تطور البلاد وتقدمها وازدهارها في جميع المجالات، مع حمل مسؤولية الحفاظ على أمنها واستقرارها، فبلغت «مِصر» من المكانة والرفعة والعلم ما لم يصل إليه أي بلد آخر، وكانت ملجأً لكل باحث عن العلم.
أما في أوقات الخطر والحرب، فنجد أبناءها يهبّون لنجدتها والحفاظ عليها ضد أي عُدوان، وإن مرت بها فترات مظلمة، فهم لم يتوقفوا عن العمل من أجل حريتها. وصفحات التاريخ تمتلئ بالدفاع عن حرية «مِصر»: يقف الفراعنة مدافعين عن أمن البلاد ضد القبائل التي تحاول النزوح إليها من كل صَوب وجهة، من الخارج والداخل، وعند حدوث أي فتن بين أفراد الشعب الواحد.
كان المِصرى المحب لبلاده يقف متصديًا لكل عُدوان تعرضت له بلاده، بدءًا من أيام الأسرة الفرعونية الثامنة عشْرة، التي قاومت قوى الهُكسوس التي احتلت «مِصر» وحكَمتها زمنًا، وإلى اليوم. كلٌّ يقدِّم حياته من أجل الوطن، ويُستشهد في الدفاع عنه وعن شعبه، مرورًا بالملك «بسماتيك» الذي طرد الآشوريِّين من «مِصر»، وثوْرات الشعب المِصرى ضد الفرس، واقتراب المشهد من الأذهان مع العصر الحديث وتكاتف أبناء الشعب والجيش والشرطة المخلصين للدفاع عن البلاد ضد محاولات احتلال البلاد مع الحملة الفرنسية، ثم البطولات التي جرت طوال فترة الاحتلال البريطانى التي سطرت أسماءً لا تُحصى من شهداء الوطن المقدِّمين حياتهم ثمنًا من أجل خير هذا البلد.
مجزرة الإسماعيلية ١٩٥٢م
في الخامس والعشرين من يناير سنة ١٩٥٢م، جرت معركة غير متكافئة بين: الإنجليز، وقوات الشرْطة المِصرية بالإسماعيلية التي رفضت تسليم سلاحها للمحتل البريطانى، ما أسفر عنها استشهاد ٥٦ بطلًا مِصريًّا.
كانت الحِقبة السابقة لثورة ١٩٥٢م مرحلة توحُّد للمِصريِّين في محاربة الاستعمار، حتى إن التوتر بين «مِصر» و«بريطانيا» قد بلغ أشده، فقد ازدادت خسائر الإنجليز بسبب العمليات الفدائية، وأعلن العمال المصريُّون انفصالهم عن العمل في معسكرات الإنجليز، وتوقف المتعهدون عن توريد الخَضروات واللحوم ومستلزمات إعاشة الضباط والجنود البريطانيِّين، ما أدى إلى قيام القوات البريطانية بمجزرة الإسماعيلية.
ففى صباح الجمعة الخامس والعشرين من يناير ١٩٥٢م، قدَّم القائد البريطانى بمَِنطَِقة القناة بريجادير «أكسهام» إلى ضابط الاتصال المِصرى مقدِّم «شريف العبد» إنذارًا بتسليم قوات الشرطة المِصرية بالإسماعيلية لأسلحتها للقوات البريطانية، والرحيل إلى القاهرة، بتهمة إيواء الفدائيِّين المِصريِّين. رُفض الإنذار البريطانى، وأيد وزير الداخلية، آنذاك، «فؤاد باشا سراج الدين» القرار، وطالب الضباط والجنود بالصُّمود وعدم الاستسلام، أدى هذا إلى فقدان القائد البريطانى لأعصابه، فأمر بتحريك قوات بريطانية تقدَّر بسبعة آلاف ضابط وجندى، تضم عشرات من الدبابات والعربات المدرعة ومدافع الميدان، لتحاصر دار «محافظة الإسماعيلية» وثُكنة تجاورها لم تكُن تضم أكثر من ٨٥٠ ضابطًا وجنديًّا.
وفى السابعة صباحًا، شهِدت المحافظة مجزرة وحشية: إذ انطلقت مدافع الميدان، ومدافع الدبابات، لتَدُكّ مبنى المحافظة وثُكنة أبنية النظام. أمر «أكسهام» بوقف إطلاق المِدفعية، معلنًا إنذاره الأخير بالتسليم أو استمرار الضرب، ليسمع كلمات نقيب «مصطفى رفعت»: «لن تتسلموا منا إلا جثثًا هامدة»! وتستمر المذبحة، وتتحول المبانى إلى أنقاض، وتُروى الأرض بدماء الشهداء. ظل الأبطال المِصريُّون صامدين حتى نفاد ذخيرتهم، واستشهاد خمسين منهم، وإصابة ثمانين. ثم أسر البريطانيُّون من بقِى على قيد الحياة من الضباط والجنود، الذين لم يُفرج عنهم إلا في فبراير من عام ١٩٥٢م. وقد كان تعليق الجنرال البريطانى على بسالة المِصريِّين: «لقد قاتل رجال الشرَْطة المِصريُّون بشرف واستسلموا بشرف، ولذا فإن من واجبنا احترامهم جميعًا ضباطًا وجنودًا». وأدى الجنود البريطانيُّون التحية العسكرية لرجال الشرَْطة المِصرية عند خروجهم من دار المحافظة ومرورهم أمامهم تكريمًا لهم وتقديرًا لشجاعتهم.
أيضًا تحمل ذاكرة «مِصر» أسماء شهداء، عرَفناهم نحن أو لم نعرِفهم، قدَّموا كل ما لديهم في حروب خاضتها «مصر» منذ العُدوان عليها في ١٩٥٦م حتى حرب أكتوبر ١٩٧٣م.
«بورسعيد» تتصدى لعُدوان ١٩٥٦م
في هذا العُدوان الثلاثى، خرج شعب «بورسعيد» ليقاومه، فكان السادس من نوفمبر هو يوم الشهداء، حين تعرضت المدينة لأعنف الغارات من الطائرات والسفن الحربية، إذ بدأ أسطول العدُو يدخل الميناء، وتمكنت قوات المِظلات البحْرية من السيطرة على «مطار الجميل»، وشرعت في التقدم على الساحل حتى التقت هي والدبابات.
لجأت القوات المعتدية إلى خدعة لا إنسانية، حيث رُفعت الأعلام المصرية والروسية والجزائرية على الدبابات، فقابلها المصريون بالترحاب، فإذ بالدبابات وقد اكتسحت المصريين المدنيين وسارت عليهم بالجنازير ليسقطوا شهداءً للوطن.
التحمت قوات المقاومة الشعبية وقوات العدُو في معركة رهيبة استمرت ثمانى ساعات انتهت باحتلال المدينة. إلا أن المِصرى لا يقبل الهزيمة، فبدأ طريق المقاومة الشعبية. ومع أن إعلانًا قد صدر عن وقف إطلاق النار رسميًّا في السابع من نوفمبر، فإن الممارسات العدوانية البغيضة استمرت، ليرُد عليها أبطال المقاومة بملاحم بُطولية اشترك فيها المِصريُّون جميعًا. وقد حاولت قوات العدُو جمع السلاح من المواطنين، وأجهزة الراديو من المنازل والمحال، لئلا يسمع الناس نشرات الأخبار.
بدأت المقاومة الشعبية في توزيع منشورات ضد العُدوان، ورفض عمال المدينة معاونة قوات العدو، هذا مع كل ما عُرض عليهم من إغراءات مادية كبيرة. وعاش الجنود الإنجليز والفرنسيُّون في رعب وذعر. ومع أن «إنجلترا» و«فرنسا» قد أعلنتا قبولهما الانسحاب من «بورسعيد» دون قيد أو شرط في الرابع من ديسمبر، فإنهما واصلتا الاعتداء على المِصريِّين، لتستمر المقاومة حتى الثامن عشَر من ديسمبر مع دخول قوات الشرَْطة المِصرية إلى المدينة.
وإلى اليوم، لايزال هذا العطاء والحب نحو «مِصر» يسرى في دماء المِصريِّين، الذين يهبّون حين يسمعون نداء وطنهم من أجل عمل، أو بناء، أو دفاع عن أي ذرة من ترابها. عظيمة هي محبة شهداء الوطن إذ يقدِّمون بحياتهم الحياة إلى الآخرين!
وفى هذا الوقت الذي نحتفل فيه بعيد الأضحى، نتذكر شهداء الوطن وأُسَرهم ونعزيهم، ونصلى إلى الله أن يهب لهم عزاءً وسلامًا وصبرًا على فقدان أحباء لا يُمحَون من ذاكرة الوطن وقلبه، و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
No Result
View All Result