تحدثنا فى المقالة السابقة عن نهاية حكم «بطليموس السادس»، وعودة أخيه «إيرجيتيس الثانى» من قبرص للاستيلاء على حكم مِصر بعد زواجه من أرملة أخيه، وقتله ابنه، ثم تماديه فى القسوة والعنف والخروج على كل الأعراف بزواجه من ابنة زوجته.
وبهٰذا أصبح حكم البلاد لملك وملكتين- الأم وابنتها، فلم يستطِع «إيرجيتيس الثانى» أن يستحوذ على الحكم بمفرده مع زوجته «كليوباترا الثالثة» ويستبعد «كليوباترا الثانية». إلا أن وجود ملكتين تحكمان جعل نوعًا من الغيرة والتنافس ينشأ بينهما. وقد كان هٰذا يناسب هدف الملك الذى يرغب فى الاستحواذ على السلطة بمفرده، فأصبح يضارب كلًا منهما بالأخرى لتكون السيادة فى النهاية له بمفرده.
وقد أدت تصرفات الملك وقسوته وبطشه وظلمه إلى كراهية الشعب إياه، وأصبحت البلاد فى حالة من عدم الاستقرار. وقد شعَر بهٰذه الحالة من عدم الاستقرار كل الهاربين من الملك وظلمه، مما جعلهم يلتفون حول أحد قواد «بطليموس السادس» القدامى الذى قد فر من قسوة «إيرجيتيس الثانى» إلى بلاد الإغريق. وكان سبب الالتفاف حول هٰذا القائد إشاعة أطلقها على الملك الراحل- بطليموس السادس- بأنه طلب منه رعاية ابنه من «كليوباترا الثانية»، وبهٰذا يكون من حق هٰذا الابن أن يرث عرش أبيه ويحكم مِصر. ومع أن الوقت كان مناسبا للإطاحة بـالملك «إيرجيتيس الثانى» لكراهية الشعب والجنود إياه بشدة، إلا أن الأمر لم يتم، ولم يتزعزع حكمه.
وقد كانت القوة المهيمنة على العالم آنذاك هى روما التى كانت تحاول فرض سيطرتها على الشرق، وكانت هناك رغبة عارمة لدى الرومان أن يتابعوا من كَثَب ما يحدث فى دول الشرق؛ وخصوصًا أن الأنباء التى تَرِد إليهم كانت متضاربة. لذا قامت روما بإرسال وفد ـ زعموا أنه من روما ـ لتفقُّد أحوال البلاد الصديقة والمتحالفة معهم.
وكانت أولى المحطات التى توقف عندها الوفد هى مِصر. وعند وصول الوفد إلى مِصر حاول «إيرجيتيس الثانى» أن يجذب انتباههم إلى ما يملكه من ثروات ونفائس. إلا أن مِصر كانت هى اهتمام الوفد الأول؛ فقد اهتموا بدراسة موقع مدينة الإسكندرية، والفنار الذى كان يُعد إحدى عجائب الدنيا. ولم يتوقف الأمر عند هٰذا الحد؛ فقد قاموا برحلة نيلية إلى مدينة «منف»، وجمعوا المعلومات عن طبيعة الأراضى المِصرية ونيلها ومدنها وسكانها وأحوال شعبها. وكما ذكر العلامة الأثرى الكبير سليم حسن أن أعضاء الوفد الرومانى: أجمعوا على أن هٰذه البلاد (أى مصر) يمكنها أن تصبح دولة قوية وعظيمة إذا وُضع على رأسها آسياد جديرون بتولى شؤونها. كما حمل الوفد الرأى إلى روما بأن بلادا تذخر بالثراء مثل مِصر يجب ألا تفلت من يد الرومان.
وقد كان لزيارة الوفد الرومانى لمِصر أثرها السيئ والسلبى فى شعب الإسكندرية؛ الذى اعتبرها لجوءا من ملكه إلى مساعدة بلاد أجنبية له ومساندتها إياه. وقد كان الشعب المصرى يرفض دخول القوى الأجنبية فى شؤون البلاد بأى نوع أو وجه، مما أدى إلى قيام ثورة عارمة فى البلاد ضد «إيرجيتيس الثانى». وقد كانت أسباب الثورة هى: كراهية الشعب تجاه الملك لتسلطه وظلمه وتعسفه، ومعاملته السيئة لـ«كليوباترا الثانية»، إضافة إلى ذٰلك زيارة الوفد الأجنبى التى فهِمها أنها استعانة بقوى أجنبية.
ومع اندلاع شرارة ثورة الشعب، استخدم الملك كل أسلوب وطريقة لكى يُفزِع الشعب ويرعبهم لإخماد الثورة؛ حتى إنه قام بإشعال النار فى ملعب رياضى ممتلئ بالشباب وقتل كل من استطاع النجاة من الحريق! وشقَّ على نفوس الشعب هٰذا الحدث، وأجَّج كراهيته تجاهه، فقرر حرق قصر الملك وهو بداخله. وما إن وصلت هٰذه الأخبار «إيرجيتيس الثانى» حتى هرب إلى قبرص مع زوجته «كليوباترا الثالثة»، وأولاده منها، وابنه الكبير من «كليوباترا الثانية». وفى قبرص، جمع جيشا من المُرتزِقة حتى يستطيع العودة وتولى حكم مِصر مرة أخرى. وبهروب الملك أعلن الشعب سقوطه، وحُكم «كليوباترا الثانية» مِصر، ومعها ابنها منه غير الشرعى.
وما إن علم «إيرجيتيس الثانى» بأمر نية تولية ابنه بدلًا منه، حتى قام باستدعائه من «سيرينى» وقام بقتله ليُضيف جريمة جديدة شنعاء إلى جرائمه. وبمجرد أن علِم شعب الإسكندرية بفعلته الذميمة حتى حطموا تمثاله انتقاما منه. فكان رده على هٰذه الإهانة- التى عدَّها أنها بتحريض من «كليوباترا الثانية»- أنْ قام بجريمة أبشع؛ بأن قتل ابنها وابنه! وقطَّعه إربا وأرسله إليها فى صندوق يوم عيد ميلادها!!
حكمت «كليوباترا الثانية» مِصر بمفردها هٰذه الفترة التى لم تطُل، حيث كان يدعمها أهالى الإسكندرية وبعض المدن المِصرية؛ ومنها مدينة طيبة. فإن «إيرجيتيس الثانى» عاد إلى مِصر على رأس جيش ليسترد حكم مِصر. فقامت «كليوباترا الثانية بالهروب إلى سوريا عند ابنتها. وهناك قامت بإعداد جيش لاستعادة مِصر، إلا أن هٰذا الجيش لم يستطِع الوصول إلى مِصر. ثم قامت ثورة على ملك سوريا، وقام إيرجيتيس الثانى بمساندة الثوار ضد ملكهم.
فى أثناء ذٰلك، قام إيرجيتيس الثانى بعقد صلح مع أخته كليوباترا الثانية التى عادت إلى مِصر لتكون الملكة الأخت التى تحكم مع الملك ومع ابنتها كليوباترا الثالثة الملكة والزوجة. وقد قضى الملك المدة الأخيرة من حياته، كما يذكر المؤرخون، فى التكفير عن السيئات التى اقترفها طوال حياته. فقد أخذ فى الاهتمام بشؤون البلاد وإدارتها وبالسهر على راحة شعبه ورعيته، كما اهتم بتشييد المبانى والمعابد.
ومما يُثير العجب أن إيرجيتيس الثانى الذى كان سببًا فى فِرار العلماء والأدباء من الإسكندرية كان أديبًا! فقد قام بتأليف مذكرات فى أربعة وعشرين مجلدًا. واهتم بمكتبة الإسكندرية. وفى أيامه سارت رحلة إلى استكشاف بحر الهند، وهى تُعد أولى رحلات المِصريين فى استطلاع أحوال المحيط الهندى لـ«بطليموس الثامن».
ترك إيرجيتيس الثانى أمر حكم مِصر إلى زوجته كليوباترا الثالثة «لتحكم مع من تختاره من ابنيها. وقد كانت هى تحب الابن الأصغر- إسكندر، فى حين تكره الابن الأكبر- بطليموس، حتى إنها دفعت زوجها قبل موته إلى أن يوليه قبرص، حتى تبعده عن عرش مِصر.
إلا أنه عند موت إيرجيتيس الثانى، ومحاولة الملكة أن تولى الابن الأصغر حكم البلاد، فإن رجال الدولة رفضوا رغبة الملكة، وأصروا على إحضار الابن الأكبر ليتولى هو حكم البلاد. وحينما فشِلت فى إقناعهم، لم تجد حلًا آخر سوى إحضار ابنها الكبير من قبرص وإلباسه تاج المُلك، بعد أن اشترطت عليه تطليق زوجته- كليوباترا وتزويجه سيلانة المطيعة لها. وقام بطليموس بتنفيذ كل رغبات أمه، وهٰكذا صار بطليموس الثامن ملك مِصر. ومع أنه لم يَرُدّ لها طلبًا وكان طائعًا لها، إلا أنها كانت تكرهه، وتتحين الفرصة للتخلص منه وتسليم الحكم إلى ابنها الأصغر. وبالفعل جاءتها الفرصة عندما اتهمته بمحاولة دس السم لها وقتلها، وأثارت عليه كل أهل الإسكندرية، فهرب إلى قبرص، فاستدعت ابنها إسكندر وتوجته ملكًا على مِصر. ثم أعدت جيشًا لقتال بطليموس الثامن، الذى هرب إلى الشام فتتبَّعته. وهٰكذا ظلت الحرب بين الفريقين مدة طويلة حتى اشتعلت نار الفتن داخل البلاد.
وفى أثناء انتشار القلاقل والفتن والحروب داخل البلاد، قرر إسكندر الخروج على سلطة أمه، فما كان منها إلا أن غضِبت غضبًا شديدًا، وأخذت تتربص به مُتحَيِّنة فرصة قتله. وعندما شعَر بما تُعده له، قام هو بقتلها واستبد بحكم البلاد! وقد زاد إسكندر فى ظلمه شعب بلاده حتى قيل إنه نبَش قبر الإسكندر الأكبر، مما أثار الشعب ضده، ففر هاربًا إلى خارج مِصر. وقد مات فى أثناء حربه مع الجيوش فى محاولة منه للاستيلاء على قبرص. وبموته قام الشعب باستدعاء أخيه بطليموس الثامن لحكم البلاد مرة ثانية. وقد بايعت البلاد الملك ليحكم مِصر ما عدا مدينة طيبة التى رفضت تملُّكه؛ فما كان منه إلا أنه سار إليها بجيش وخرّبها، وقضى على شعبها.
وبعد استقرار الحكم له، اهتم الملك بتعمير السفن الحربية والتِجارية وإعلاء شأن البلاد، واستعادت مِصر شهرتها مجددا؛ حتى إن الدول العظمى آنذاك، مثل روما كانت حريصة على أن تكون حليفة لها.
وبعد موت بطليموس الثامن خلَفته ابنته كليوباترا مدة ستة أشهر فقط، و… والحديث عن مِصر لا ينتهى!.