تحدثنا فى المقالة السابقة عن حكم «بطليموس السابع» مِصر، وكيف اهتمت روما فى عهده بفرض سيطرتها ووصايتها على البلاد. ثم تولى «بطليموس الثامن» حكم البلاد على فترتين؛ بينهما حَكم أخوه «إسكندر الأول» البلاد. وبعد موت «بطليموس الثامن تولت ابنته «كليوباترا» الحكم.
م. بطليموس التاسع (85 ق. م لمدة 6 أشهر ونصف تقريبًا)
كان يُسمى «إسكندر الثانى» وهو ابن «إسكندر الأول»، وكانت فترة حكمه قصيرة جدًا. كان يقيم فى كبادوكيا فى قصر مَلكها كنزيل عنده، فلما جاء الأمير الرومانى «سولا» لقتال ملك كبادوكيا، انضم «إسكندر الثانى» إلى الأمير «سولا» آملًا أن يساعده فى العودة إلى عرش مصر وحكمها.
عندما مات «بطليموس الثامن» أخو «إسكندر الأول»، كان الأمير «سولا» آنذاك قد أصبح رئيس جمهورية الرومانيين، فأرسل هو «إسكندر الثانى» إلى مِصر لتولى حكمها. ولئلا تحدث فتنة تزوج بالملكة «كليوباترا» التى كانت تحكم مِصر فى ذٰلك الوقت وشاركها الحكم. ولٰكنه لم يستمر معها سوى ستة أشهر؛ إذ قتلها واستولى على الحكم ولقَّب نفسه «بطليموس التاسع».
وإذ كان ملك مِصر كثير الاعتماد واللجوء إلى روما ـ الأمر الذى رفضه كبار رجال الدولة والجيش المصريون ـ فقد كانوا يرفضون إعطاء أى دولة أجنبية الحق فى أن تدخل فى شؤون ومصالح البلاد ـ قرروا التخلص منه بتدبير مكيدة لقتله، وقاموا بذبحه فى ملعب بمدينة الإسكندرية، وكان ذٰلك بعد أيام من استقلاله بالحكم.
و. بطليموس العاشر (85 ق. م – 51 ق. م تقريبًا)
تولى «بطليموس العاشر» حكم البلاد وقد كان ابنًا غير شرعى لـ«بطليموس الثامن». وفى بداية مدة حكمه، لم تعترف روما به ملكًا على مِصر، بل إن مِصر هى تحت وصايتها؛ حيث إن ـ من وجهة نظرها ـ المنصب الملوكى فى مِصر هو لا يزال خاليًا. وادعت أن «إسكندر الثانى» ـ ملك مِصر السابق ـ ترك وصية تضع مِصر من بَعده تحت وصاية روما.
وفى الشام كانت بنات البطالمة يطلبن حق أبنائهن فى حكم مِصر، وقد سعَين فى طلب هذا الحق لدى روما. وحينما علم «بطليموس العاشر» أرسل هو أيضًا رسلًا لإقناع مجلس الشيوخ الرومانى بمُلكه. ظل هذا الصراع ممتدًا فترة طويلة مارًا بمناقشات كثيرة فى مجلس الشيوخ الرومانى، كما ناقشوا ضم مِصر إلى المملكة الرومانية. ولٰكن انتهى الحال إلى القضاء بإبقاء استقلال مِصر.
فى أثناء ذٰلك الوقت، قامت فتنة فى البلاد ضد «بطليموس العاشر» فطلب معونة أحد الأمراء الرومان؛ الذى ساعده فى وأد الفتنة فى مِصر. وقد رد له «بطليموس» جميله هذا بمساعدته بالمال ومعدات الحرب فى حصاره مدينة أورشليم ـ القدس حاليًا، مما جعل الأمير يوصى بـه قيصرَ روما خيرًا، فجعله تحت حمايته وطالب مجلس شيوخ بالاعتراف به ملكًا على مِصر.
ثم قامت روما بنزع قبرص من مِصر وضمها إلى روما، مما أغضب شعب الإسكندرية ورجال الدولة المِصرية فطالبوا ملك مِصر بنقض معاهدته مع قيصر روما وإعداد جيش للتوجه إلى قبرص ونزعها بالقوة من روما. رفض «بطليموس العاشر» طلب الشعب، فقاموا عليه وثارت فتنة عظيمة فى البلاد، ولم يجد الملك مفرًا إلا الهرب إلى روما طلبًا للمعونة.
وبهروب «بطليموس العاشر» إلى روما انقطعت الأخبار عنه فظن الشعب المصرى أنه مات، فقاموا بتولية ابنتيه «كليوباترا» و«برنيقة» حكم مِصر. ثم أرسلوا فى طلب خالهما ملك الشام لمساعدتهما فى تصريف أمور المملكة، إلا أنه كان قد مات. فتكلموا مع أخيه؛ وجاء إلى مِصر. وعند وصوله وجد أن «كليوباترا» كانت قد ماتت بعد أن حكمت مدة عام مع أختها، فتزوج «برنيقة»؛ واشتركا فى الحكم. إلا أن حكمهما لم يستمر طويلًا؛ إذ إن الملكة قد قامت عليه وقتلته، وتزوج بها كاهن هيكل البستان ببلاد الأرمن يُدعى «أرخيلاوس».
فى ذٰلك الوقت، كان «بطليموس العاشر» يفاوض روما ليعود ملكًا على مِصر. وقد ساعدته روما بجيش، وعاد بالفعل ملكًا بعد قتال ضد الجيوش المِصرية هُزمت فيه، ودخلت الجيوش الرومانية إلى مِصر برًا وبحرًا. وبموت «أرخيلاوس» استقر الحال للملك «بطليموس العاشر» وعاد لحكم مِصر، ولٰكنه انتقم من ابنته بقتلها هى ورجال الدولة والأغنياء، وقدَّم أموالهم للرومان الذين تركوا له جنودًا لحراسته حتى مماته. ويذكر المؤرخون أنه لم يقُم بأى عمل خير إبان حكمه البلاد.
ن. بطليموس الحادى عشر (51 ق. م – 47 ق. م تقريبًا)
كان «بطليموس العاشر» قد أرسل وصية قبل موته إلى روما مفادها أن يكون حكم مِصر هو لأكبر أولاده وبكر بناته؛ بشرط زواجهما واشتراكهما فى الحكم، وأن تصبح روما الوصى عليهما. وبذٰلك تولى الحكم ابنه الأكبر ـ وكان عمره آنذاك ثلاث عشرة سنة ـ و«كليوباترا» أخته سبع عشرة سنة ـ وكانت هى الأجدر بحكم البلاد. وقد أُقيم عليه ثلاثة أوصياء كانوا يكرهون «كليوباترا» ولا يرغبون فى إشراكها فى الحكم مع أخيها.
فى تلك الآونة، كانت روما منقسمة إلى حزبين: أحدهما برئاسة «يوليوس قيصر»، والآخر بقيادة «بومبيوس». وتقاتل الفريقان وأريقت الدماء، فقرر «بومبيوس» أن يغادر روما إلى بلاد اليونان ـ التى كانت تُعد آنذاك ولاية رومانية. ثم أرسل ابنه فى صحبة أحد القواد إلى مِصر ليجمع العساكر الرومانيين الذين فى مِصر ليحارب بهم القيصر. فقامت «كليوباترا» بمساعدته وإرسال مؤونة وعُدد وجنود. وقد استخدم الأوصياء على «كليوباترا» هذا الفعل ليحرضوا أهل الإسكندرية عليها. وقد حدثت فتنة عظيمة عمت البلاد؛ فهربت «كليوباترا» إلى الشام مع أختها الصغيرة.
حارب «يوليوس قيصر» غريمه «بومبيوس» حتى هزمه، ففر إلى الإسكندرية ليحتمى بـ«بطليموس الحادى عشر»، إلا أنه لم يستقبله بل أمر بقتله، ووضع رأسه بين يدى «يوليوس قيصر» الذى تعقب «بومبيوس» إلى الإسكندرية.
وكان «يوليوس قيصر» قد أعاد معه «كليوباترا» من الشام إلى الإسكندرية لتحكم مع أخيها. وقد قضى قيصر روما فى الإسكندرية مدة ليست بالقليلة. وذكر بعض المؤرخين أن هذا كان بسبب محبته الشديدة لكليوباترا ـ حتى ثار أهل مصر لوجوده. فقد كان المصريون يَعُدّون هذا أمرًا ضد حريتهم واستقلالهم، ودخولًا من الرومان فى أمور بلادهم. فطلب الشعب المصرى إلى قائد الجيوش المصرية أن يذهب إلى الإسكندرية ويقاتل «بطليموس الحادى عشر». فما كان منه إلا أنه هرب إلى معسكر «يوليوس قيصر»، الذى حاول تهدئة الفتنة وذلك بقراءة وصية ملك مِصر السابق، وبالفعل هدأت ثورة الشعب والفتنة. ولكن خوفًا من انتقال الوصاية إلى الرومان، قام الأوصياء وكبار رجال الدولة بتحريض الشعب على «يوليوس قيصر» وإثارتهم ضده مرة أخرى؛ فثار الشعب واشتعلت الفتنة جدًا وقرر إهلاك قيصر روما وجنوده. وقد أنقذ القيصرَ وصولُ فرقة من الجنود الرومان التى ساعدت فى القتال حتى انتصروا على ثورة الشعب. ثم طالب الشعب بالصلح وإطلاق سراح الملك «بطليموس الحادى عشر». وبعد الاستجابة إلى مطالبهم، أعد «بطليموس» جيشًا ليتتبع قيصر روما ويحاربه؛ فاحتدم القتال بين الفريقين وانتهى بهزيمة «بطليموس الحادى عشر» الذى فر مع جنوده، إلا أنه لم يصل إلى مِصر لغرقهم فى نهر النيل!
وبعد غرق بطليموس الحادى عشر وجنوده فى النيل، عاد يوليوس قيصر إلى الإسكندرية وتغلب على شعبها. وقد كان بإمكانه ضم مِصر إلى روما إلا أن… إلا أن الحديث عن مِصر لا ينتهى…!