No Result
View All Result
هذا الرجل ليس من هذا العالم؛ نعم، لم يكُن من هذا العالم، فقد قال: «أود أن أعيش غريبًا، وأموت غريبًا». لكنّ الله أراد «للقمص مينا البَرَموسيّ المتوحد» أن يصبح «البابا كيرلس السادس»، بابا وبطريرك الكرازة المَرقسية السادس عشَر بعد المائة، الذى احتفلنا بعيد نياحته قبل أيام قليلة.
سيرته:
وُلد «عازر يوسف عطا» ببلدة «طوخ النصارى» فى الثامن من أُغسطس عام ١٩٠٢م، من أبوين مَسيحيَّين أرثوذكسيَّين، وكان الثانى بين إخوته. وقد عاشت أسرته فى «دمنهور»، ثم فى «الإسكندرية» حيث حصل على «البكالوريا». وفى عام ١٩٢١م، عمِل فى شركة «كوك شيبينج» للملاحة بـ«الإسكندرية»، فكان مشهودًا له فيها بالأمانة والإخلاص، ونال ثقة رؤسائه وتقديرهم فى العمل، حتى قال عنه المدير العام للشركة، وكان أستراليًّا متشددًا يخشاه الموظفون: «إن هذا الشاب علَّمنى كيف أحترمه، وأعجبنى فيه رِباطة جأشه، وحُسن تصرفه. ولم يتجنب مقابلتى كما يفعل زملاؤه».
وفى تلك الأثناء، درَّب نفسه على حياة النسك تمهيدًا لدُخول الرهبنة، وكان يشعر بآلام الآخرين وحاجاتهم. وقد حدث يوم رِفاع «الصوم الكبير» أن وجد المائدة ممتلئة بأفضل أنواع الطعام، فطلب من والديه تقديم الطعام لإحدى العائلات الفقيرة المجاورة لهم، وكان له ما أراده.
وفاجأ «عازر» الجميع بتقديم استقالته، التى أدهشت مديره فحاول صرف عزمه عنها لكنه لم يُفلِح. وقد زكاه «البابا أنبا يوأنِّس» (الـثالث عشَر بعد المائة) للرهبنة بـ«دير السيدة العذراء» الشهير بالـ«بَرَموس»، فسِيم راهبًا فى الخامس والعشرين من فبراير عام 1928م باسم «مينا البَرَموسيّ». ثم التحق بالمدرسة اللاهوتية بـ«حُلوان» ليدرُس بها. ثم سِيم قَسًا فى يوليو عام ١٩٣١م. وفى عام ١٩٣٤م، أراد «البابا يوأنس» سيامته مِطرانًا للغربية والبحيرة، فما إن علِم بذلك حتى هرب إلى «دير القديس أنبا شنودة رئيس المتوحدين» بسوهاج. وبعد عودته إلى ديره، توحد فى مغارة فى الصحراء تبعد عن الدير مسافة ساعة سيرًا على الأقدام.
وعندما طُرد سبعة من رهبان الدير، خرج معهم لخدمتهم، وقابل البطريرك وأوضح له الأمر، فعاد الآباء إلى ديرهم، وانتقل هو ليعيش فى طاحونة بصحراء «مصر القديمة». وفى الطاحونة، بدأ كثيرون يسعَون للتبرك من «الراهب مينا البَرَموسيّ المتوحد». وأُسندت إليه رئاسة «دير أنبا صموئيل المعترف» بجبل القَلَمون، ورُقِّى قمصًا، فاهتم «القمص مينا البَرَموسيّ» بالدير، وعمَّره ورمَّم الأسوار المتهدمة، كما عمَّر كنيسة الدير ببلدة «الزورة»، وكان يتنقل بين الطاحونة والدير.
ومع بَدء الحرب العالمية الثانية، ترك الطاحونة وعاش متنقلاً بين «دير الملاك القبلى» و«كنيسة العذراء ببابليون الدَّرَج». ثم بنى كنيسة على اسم القديس الشهيد «مار مينا العجائبيّ» الذى كان يحبه كثيرًا، وأقام مسكنًا للطلبة، وأعاد إصدار مجلة «ميناء الخلاص»، وكان مرشدًا للشباب والخدام ذلك الوقت.
وبعد نياحة «البابا يوساب الثانى»، الـخامس عشَر بعد المائة، زكاه القائم مقام البطريرك «أنبا أثناسيوس» مِطران بنى سويف، دون علمه، وكان الخامس فى الترتيب. وبعد الانتخابات، فى السابع عشَر من إبريل ١٩٥٩م، كان الثالث. وأعلنت القرعة الهيكلية اختياره بطريركًا للكرازة المَرقسية فى التاسع عشَر من إبريل ١٩٥٩م، ليصير البابا «كيرلس السادس» السادس عشَر بعد المائة، ولهذا قصة: فقد ظهر له فى حُلم «البابا» كيرلس الخامس، وقال له: «أنظر يا (أبونا مينا): عصا الرعاية انكسرت منى أثناء صُعودى الجبل، فأنا حزين عليها جدًّا». فقال له: «يتفضل سيدنا ويتركها لى قليلاً»، فأعطاه إياها، فأصلحها وأعادها له. ففرِح البابا وقال له: «خُذها يا (أبونا مينا)، قد وهبتُها لك»، فتسلمها من يده. وقضَّى على الكرسى المَرقسيّ ١١ سنة و٩ أشهر و٢٩ يومًا، وتنيح فى التاسع من مارس عام ١٩٧١م.
وكانت آخر زياراته فى «دير مار مينا» بمريوط، فى مايو عام ١٩٧٠م. ويذكر تلميذه «القمص رافائيل آڤا مينا» عن وداع قداسته: «ودَّع البابا (دير مارمينا) ورهبانه بطريقة تختلف عن كل مرة: فقد استدعى الرهبان، ووجْهه مطرِق إلى الأرض، ويحاول أن يمسك دموعه حتى لا تغلبه، وسلَّم كل واحد من الرهبان قُلُنْسُوَة بيده، وبعدها عمِل تمجيدًا للشهيد (مارمرقس الرسول) والشهيد (مارمينا)، وانصرف من الدير».
وقد تنيح البابا فى قلايته بالبطريركية بالأزبكية، وكانت كلماته الأخيرة: «الرب معكم. الرب يدبر أموركم». وتبارك منه الشعب، ودُفن تحت مذبح الكاتدرائية بالعباسية جوار الشهيد «مار مرقس الرسول»، ونُقل إلى «دير مارمينا» بمريوط حسب وصيته. وفى يونيو ٢٠١٣م اعترفت به «الكنيسة القبطية الأرثوذكسية» قديسًا.
فضائله:
تعددت الصفات والفضائل «للقديس البابا كيرلس السادس»:
■ الجِد والالتزام فى كل ما يعمله، منفِّذًا قول الكتاب: «أرأيتَ رجلاً مجتهدًا فى عمله؟ أمام الملوك يقف. لا يقف أمام الرَّعاع!».
■ كان أمينًا فى الحياة مع الله، فائتمنه على رعاية شعب بأسره، فربِح ثقة كل من قابله كقول الكتاب: «كنتَ أمينًا فى القليل فأقيمك على الكثير».
■ متواضعًا يخدُِم الجميع، فمنحه الله نعمًا كثيرة لأجل تواضعه كقول الكتاب: «يقاوم الله المستكبرين، وأمّا المتواضعون فيعطيهم نعمة». ومن أقواله عندما رُشح للبطريركية: «من أنا الدودة الصغيرة حتى أتطلع إلى هذه المُهمة العظيمة الخطيرة، وأحمل هذه الأمانة العظمى التى تُعطى لمن يختاره الله، وليس لمن يشاء أو يبغى؟!».
■ ناسخًا وباحثًا فى كتابات وأقوال الآباء، وحفَظ معظمها، منفِّذًا قول الكتاب: «فتِّشوا الكتب لأنكم تظنون أن لكم فيها حياة أبدية»، فتفتحت أمامه أبواب المعرفة.
■ راهبًا فى مَلبَسه ومأكله حتى بعد أن أصبح بطريركًا.
■ وديعًا، مسامحًا مقدِّمًا الإحسان أمام الإساءة كوصية الكتاب: «كونوا لطفاء بعضكم نحو بعض شفوقين متسامحين».
■ شاهدًا للحق، فمن أقواله: «إن الله علَّمنا أن نجاهد عن الأمانة حتى الدم. والذى لا يدافع عن الحق يكون مثل شيطان».
■ وطنيًّا، فقال عنه «د. حسن فؤاد» مدير الآثار العربية: «يا أبى: لقد رفعتَ رأس الرهبان، وشرَّفتَ الرجل المِصرى، فلك منى تحية حارة! وأرجو أن أبرهن عن عمق تقديرى واحترامى لك يومًا ما»، وحينما التقاه ومعه مدير «كلية اللاهوت بنيويورك»، قال الأخير: «إن ما جمعتُه من معلومات فى شهرين لهُو شىء ضئيل جدًّا بالنسبة لما عرفتُه اليوم».
■ أبًا وراعيًا: يطلب الضال، ويبحث عن المطرود، ويجبر الكسير، ويَعصِب الجريح، ويرعى أبناءه بعدل مهتمًا بالجميع.
وبالحق لُقب «القديس البابا كيرلس» برجل الصلاة، ولم تكُن حياته سهلة ناعمة بل تعرض لكثير من المتاعب والضيقات التى كان يجتازها بإيمان وصلاة لا مثيل لهما، فدائمًا ما كان يقول: «لا يوجد شىء تحت السماء يكدرنى أو يزعجنى، لأنى مُحْتَمٍ فى ذلك الحصن الحصين، داخل الملجأ الأمين، مطمئنًا فى أحضان المراحم، حائزًا على ينبوع من التعزية».
و… وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى
No Result
View All Result