No Result
View All Result
قد تستطيع الإبحار بمهارة فى أعماق كثيرين، أمّا الإبحار فى حياة مثلث الرحمات المتنيح «البابا شنودة الثالث»، فهو مغامرة ترتفع بك إلى عُِلْو السماء وتأخذك إلى العمق! إنها رحلة حياة تجذبك تفاصيلها من لحظاتها الأولى فى الطفولة، إلى أن صار أبًا راعيًا «للكنيسة القبطية الأرثوذكسية»، يعلِّم ويُرشد ويُدبر أمورها حتى انتقل من هٰذا العالم؛ وقد احتفلنا بذكراه العطِرة قبل أيام قليلة فى السابع عشَر من مارس.«البابا شنودة دائمًا: رجل صُلب، متفائل، شديد الذكاء، مِصرىّ عميق الأصل، عربىّ الوِجدان والتوجهات، إنسانىّ النزعة، عالمىّ الأفْق»، كلمات أطلقها الأديب المِصرىّ العالمىّ الكبير «نجيب محفوظ» عن شخصية «البابا شنودة الثالث»، السابع عشَر بعد المئة فى باباوات الكرسىّ الإسكندرىّ، الذى لم يكُن أبًا لأبنائه من المَسيحيِّين فقط بل محبًّا للجميع، حتى أُطلق عليه «بابا العرب». والحديث عن المتنيح «البابا شنودة» ليس بالحديث السهل، إلا أننى سأتحدث فى إيجاز عن صفتين كانا سر اجتذاب كثيرين إليه: «إنسانىّ النزعة»، و«عالمىّ الأفْق».
إنسانىّ النزعة
هو إنسان حمَل فى أعماقه رقة الحس والمشاعر، وحمل قلبًا يتألم لآلام الناس ويتعب لأتعابهم، فيقول: «كنتُ حساسًا جدًّا تُِجاه آلام الناس؛ فقد كنتُ أغادر المنزل حين يكون أحد أفراد العائلة مريضًا يكابد الأوجاع ويصرخ من الألم، لأننى لم أكُن أحتمل النظر إليه وهو يتألَّم!!»؛ لذٰلك كان لا يتوقف عن العمل لإراحة كل من يلجأ إليه، أو من يجده فى شدة أو ضيقة، مقدِّمًا راحة الآخرين على راحته هو الشخصية، فزرع حبًا جمًّا بينه وبين كل من عرَفه: فأحبه الفقراء، والأغنياء، والبسطاء، وغير المتعلمين، والمثقفون، والمفكرون.
كثيرًا ما كان يردد: «أعطِ من قلبك قبل أن تُعطى من جيبك»، مدركًا أهمية الحب للنفس البشرية، فأحب الجميع واهتم بكل محتاج اهتمامًا خاصًّا، مقدِّمًا لهم حاجاتهم كافة، وكان يتابع تلبيتها بشخصه. أيضًا كان يلتقى الجميعَ ببشاشة وجهه المعهودة، وكلماته المبهجة المفرحة. لقد أدرك أن سر الحياة الحقيقىّ فى أن يسمو الإنسان بإنسانيته فيقدِّم الحب والاهتمام والرعاية والعطف لكل إنسان. كما كان يرى القوة فى المحبة لا فى تحقيق الانتصار على الآخرين؛ فالإنسان القوىّ هو من يستطيع أن يَكسِب أعداءه ويحولهم إلى أصدقاء، مرددًا: «ليس القوىّ من يهزم عدوه، إنما القوىّ من يربحه». لقد ملك قلبًا متسعًا يحتمل الجميع ويعامل الكل بمحبة وصبر، موقنًا أن لكل إنسان شخصيته التى تتنوع عن شخصيات الآخرين، وأن المحبة هى الطريق إلى كسب القلوب، فجال فى الحياة يزرع الحب أينما حل بمكان.
ويمكن لأىّ قارئ لأشعاره أن يتلمس نبضات قلبه، فهو يمتلك القدرة أن يسبَح بك فى عالم من المشاعر التى ترفعك فوق مستوى ما يمر بك من آلام، وأن يسمو بفكرك وروحك حين تقرأ شعره الروحىّ. كان قداسته إنسانًا لا تستطيع إلا أن تسمع خفق قلبه فى أحرفه وكلماته؛ فترتفع بك نحو السماء، منطلقًا من كل ما هو أرضىّ. ففى نبضات قصيدة «أحبك يا رب» أخذ يُنشِد:
أُحِبُّكَ يَا رَبُّ فِى خُلْوَتِــــــى تُنَاجى فُؤَادِى بِعُمْقِ الكَلِـمْ
أُحِبُّكَ يَا رَبُّ فِى ضِيقَتِـــــى وَوَقْتَ احْتِيَاجِى وَوَقْتَ الْأَلَمْ
أُحِبُّكَ يَا رَبُّ فِى تَوْبِتَــــــــى
وَوَقتَ الْبُكَاءِ وَوَقْتَ النَّـدَمْ
أُحِبُّكَ يَا رَبُّ وَقْتَ الرَّخَــــاءِ وَأَيْضًا أُحِبُّكَ وَقْتَ الْعَـــدَمْ
أُحِبُّكَ وَالْقَصْرُ يُبْنَى لِأَجْلِى وَأَيْضًا إِذَا مَا هَوَى وَانْهَــــــدَمْ
أُحِبُّكَ قَلْبًا يُضَمِّدُ جُرْحِــى وَأَفْرَحُ حِيْنَ رَآهُ الْتَــــــــــــــأَمْ
أُحِبُّكَ رُوْحًا تُرَفْرِفُ حَوْلِـى وَتَمْنَحُ نَفْسِى عَمِيقَ النِّعَـــمْ
ومن هٰذا الحب العظيم لله، انطلقت مشاعره نحو كل إنسان إذ هو خليقة الله وصنعة يديه.
«عالمىّ الأفْق»
حمل «البابا شنودة الثالث» فكرًا مستنيرًا، وأفْقًا واسعًا، بفضل ثقافته الموسوعية التى بدأت رحلتها فى حياته مبكرًا جدًّا؛ ففى طفولته كان مشغوفًا بالقراءة إذ كان الكتاب صديقه الأقرب إلى قلبه، فيقول: «أذكر الآن أننى كنتُ فى طفولتى مُولِعًا بالقراءة، إذ لم يكُن حولى أطفال فى مثل سنى ألعب معهم، فكانت لُعبتى المفضَّلة هى الكتب، أقرؤها بنهَم شديد. كنتُ فى تلك السن الغضة، أقرأ كتبًا كثيرة جدًّا»؛ فقرأ كتاب «قادة الفكر» لعميد الأدب العربىّ «طٰه حسين»، و«سارة» للكاتب المفكر الأديب «عباس محمود العقاد»، وتنوعت مجالات اطلاعه وتعددت قراءاته فمنحته معرفة وأفْقًا متسعًا، فقرأ فى: الطب، والاجتماع، والتاريخ، والأدب، والقِصص والروايات. ولم تقتصر ثقافته على اتجاه فكرىّ واحد بعينه، بل شملت شتى الأُدباء والمفكرين، فى أنحاء العالم كافة. إلا أن ولعه الكبير كان بقراءة الشعر ونظمه، وهو لايزال فى المرحلة الثانوية، وقد ساعده على ذٰلك قوة الذاكرة التى وهبها الله له من الصغر؛ فقد استطاع حفظ مزمور «السماوات تحدث بمجد الله»، وهو مزمور طويل، وكان لايزال فى الصف الرابع الابتدائىّ، ونال عليه جائزةً إنجيلاً مُذَهَّبًا.
وقد أهلته ثقافته الواسعة وتميزه الفكرىّ لكى يتولى رئاسة تحرير «مجلة مدارس الأحد»، ثم أمانة المكتبة بـ«دير السريان» التى تُعد واحدة من أهم مكتبات الأديرة؛ ليُصبح فى عام ١٩٦٢م أول أسقف للتعليم، فقدَّم الفكر والثقافة لشعبه ورعيته فى اجتماعات عامة، إلى جانب نشر عديد من الكتب، كما أصبح عضوًا فى «نقابة الصحفيين» فى عام ١٩٦٦م، واحتفظ بتلك العُضوية طوال حياته. لقد كانت الثقافة أحد اهتماماته، فظل يؤكد أهمية المعرفة لحياة الإنسان قائلاً: «إن الثقافة أمر مهم بالنسبة إلى الجميع. وقد قال ربنا فى العهد القديم: (هلك شعبى من عدم المعرفة)، لأنه من الممكن أن إنسانًا يَهلِك عن طريق الجهل… ولذٰلك نحن يُهمنا أن يصل الناس إلى المعرفة؛ وإن لم يصلوا إلى كل المعرفة، فعلى الأقل على بعض المعرفة التى تُفيدهم فى حياتهم».
وهٰكذا كان الاتجاه نحو الثقافة والفكر اللَّبِنة الأساسية التى منحت «البابا شنودة الثالث» القدرة على التواصل مع الشخصيات المتنوعة بتعدديتها الفكرية، بل نال إعجاب كل من التقاه. لقد قدَّم محاضرات لا تُمحى من ذاكرة التاريخ، ومنها محاضرتاه فى «نقابة الصحفيين» يوم ٢٦/٦/١٩٦٦م وموضوعها «إسرائيل فى رأى المَسيحية»، ويوم ٥/١٢/١٩٧١م وموضوعها «المَسيحية وإسرائيل»؛ وأخرى فى «جامعة الدُّول العربية»، يوم ١٣/٣/١٩٩٥م، بعُِنوان «القدس مدينة السلام»، ولا يُنسى لقداسته أنه قام بتفنيد مفاهيم الصَِّهيونية ومزاعمها فى محاضرة بـ«أكاديمية ناصر العسكرية العليا»، يوم ١٤/٥/٢٠٠٢م. هٰذا إلى جانب المؤتمرات والندوات العامة، منها على سبيل المثال: «دعوة الأديان إلى محو الأمية» (١٩٩٦م)، و«نقل وزراعة الأعضاء» (١٩٩٧م)، و«الصحة الإنجابية» (١٩٩٨م)، و«مكافحة التدخين» (٢٠٠٠م)، و«التطورات العالمية الجديدة» (٢٠٠١م)، وغيرها. لقد قال عنه الكاتب الكبير «أحمد بهجت»: «الاستماع إلى «البابا شنودة» متعة؛ فهو رجل واسع الثقافة، عميق النظرة، ويعيش أحداث عصره بقلب دافئ وعقل مفتوح… بارك الله فيك يا سيدى، وبارك قلبك الطيب، وعقلك المثقف، ووعيك العظيم برسالات الأديان، وجوهر التاريخ والحضارة.»، و… وفى «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ
No Result
View All Result