تحدثنا فى المقالة السابقة عن مدة الحكم من «بطليموس التاسع» حتى «بطليموس الحادى عشر» الذى مات غرقًا فى نهر النيل بعد هزيمته على يد «يوليوس قيصر» ملك روما.
س. بطليموس الثانى عشر (47 ق. م – 45 ق. م تقريبًا)
بعد موت «بطليموس الحادى عشر» غرقًا فى النيل هو وجنوده، عاد «يوليوس قيصر» إلى الإسكندرية ودخلها بقوة جيشه بعد أن تغلب على أهل الإسكندرية، وقام بتولية ابن «بطليموس العاشر» الأصغر على عرش مِصر، حسب الوصية التى تركها أبوه بأن يحكم البلاد أكبر أبنائه وكبرى بناته بعد زواجهما. ثم غادر إلى روما تاركًا كتيبة عسكرية رومانية لحماية الحكام الجدد، وقد دُعى الملك «بطليموس الثانى عشر»، إلا أن الحكم الفعلى كان لـ«كليوباترا».
بعد عام من الحكم، زار «بطليموس الثانى عشر» و«كليوباترا» روما، ثم حكم مِصر بعد عودته سنتين لتكون كل مدة حكمه ثلاث سنوات. وقد ذكر بعض المؤرخين أنه مات مسمومًا بيد «كليوباترا».
ع. كليوباترا تحكم مِصر تحت حماية الرومان (45 ق. م. – 30 ق. م. تقريبًا)
بعد موت الملك، حكمت «كليوباترا» تحت حماية «يوليوس قيصر» إلى أن اغتيل. وقد خلفه فى إدارة الإمبراطورية الرومانية ثلاثة قواد هم: «أوكتافيوس»، و«أنطونيوس»، و«ليبدوس». وقد أخذ «أنطونيوس» إدارة شؤون المملكة فى الشرق، و«أوكتافيوس» أدارها فى الغرب.
لجأت «كليوباترا» إلى مجلس شيوخ روما وطلبت الحكم لأصغر أولادها زاعمة أنه ابن «يوليوس قيصر». إلا أن «أنطونيوس» رأى «كليوباترا» وأحبها فدافع عنها وجعلها تحت حمايته، ثم تزوج بها بعد حضوره إلى الإسكندرية.
ظل «أنطونيوس» فى مِصر إلى أن وصله تهديد من مجلس شيوخ روما بتجريده من مقاليد منصبه، فعاد إلى روما ومنها إلى بلاد الشام ليحارب، وهناك ذهبت إليه «كليوباترا» وعاد معها إلى الإسكندرية.
طلبت «كليوباترا» من أنطونيوس ضم بعض الولايات الرومانية إلى مدينة الإسكندرية، وقد استجاب لها فأقام ولديه «إسكندر» و«بطليموس» ـ اللذين أنجبهما منها ـ ملكين، فقد جعل ابنه «إسكندر» ملكًا على أرمينيا وأذربيجان وفارس، أما ابنه «بطليموس» فقد ملَّكه على سواحل الشام ودمشق والأناضول. وبذٰلك جرَّد أنطونيوس الدولةَ الرومانية من أملاكها وأعطاها لابنيه من «كليوباترا».
وقد كان الخلاف بين «أنطونيوس» و«أوكتافيوس» محتدمًا بسبب ترك «أنطونيوس» زوجته «أوكتافيا» أخت «أوكتافيوس» وزواجه بـ «كليوباترا». شكا «أوكتافيوس» «أنطونيوس» عند مجلس شيوخ روما بأنه يبدد أملاك الإمبراطورية الرومانية، مما أدى إلى عزل «أنطونيوس» وإعلان الحرب على مِصر.
قاد «أوكتافيوس» أسطوله البحْرى لمواجهة أسطول «كليوباترا» و«أنطونيوس»، وقد ظلت المعارك البحْرية مستمرة إلى أن تركت «كليوباترا» ميدان القتال، وقد تبعها «أنطونيوس» ثم «أوكتافيوس» الذى وصل إلى الفَرَما ودخل البلاد. فرت «كليوباترا» إلى حصن وأعلنت نيتها الانتحار. وما إن وصل الخبر إلى «أنطونيوس» حتى قرر الانتحار أيضًا. وبالفعل طعن نفسه بخنجره، وقبيل موته عرَف أن «كليوباترا» لم تمُت، فرغب فى رؤيتها ولٰكنها رفضت. أمّا كليوباترا فحينما أدركت أنها لن تستطيع التأثير فى «أوكتافيوس»، وأنها فقدت حكم مِصر أقدمت على الانتحار. وبموت «كليوباترا»، أصبحت مِصر ولاية رومانية وانتهى حكم البطالمة على مِصر.
تأثير حكم البطالمة فى مِصر
ظهرت حضارة جديدة هى نتاج تراث دول البحر المتوسط، ولٰكنها تختلف عن الحضارة الفرعونية، وقد فرضت الحضارة الجديدة نفسها من بابل إلى روما. فقد كانت حضارة هٰذا العصر فى مِصر إغريقية الأصل، أما الحضارة المِصرية فأثرت فيما سمح به فقط الملوك البطالمة، مثل: ارتداء الزى الفِرعَونى فى الحفلات الرسمية، وتقديم الهدايا والقرابين للمعبودات المِصرية، وتشييد المعابد والهياكل على الطراز المِصرى القديم، وكونهم يتزوجون بأخواتهم مثل الفراعنة. وفى المقابل كانت عاداتهم ومعيشتهم إغريقية.
وقد رأى البطالمة أن استقلال مِصر يبدأ بالقضاء على وَحدة الإمبراطورية المقدونية بعد موت الإسكندر الأكبر، فخاضوا الحروب وانضموا إلى تحالفات للقضاء على محاولات إحياء الإمبراطورية المقدونية.
كانت سياسة البطالمة فى مِصر استعمارية، ولٰكنها كانت دفاعية اقتصادية. لقد كانت سلامة مِصر مهمة للحفاظ على ثرواتها، لذا سعَوا لتكوين مملكة قوية غنية على ضفاف النيل والبحرين الأحمر والمتوسط. وقد بلغت إمبراطورية البطالمة أزهى عصورها فى عهد بطليموس الثالث، بعد ضم الأقاليم التى تُعد ملحقات مِصر الطبيعية ـ مثل: برقة (الجزء الشرقى من ليبيا) فى الغرب، وسوريا وفلسطين وقبرص فى الشرق ـ وبسط سلطان مِصر على البحر المتوسط للتحكم فى الطرق التِجارية لتوفير احتياجات البلاد. وقد وضعوا نظامًا إداريًا دقيقًا لمِصر.
كذلك اهتموا بإعادة تنظيم الجيش، وضموا عددًا كبيرًا من المِصريين فقط فى عصر «بطليموس الرابع»، وكان لهم الفضل الأكبر فى الانتصار فى موقعة رفح 217 ق. م. على جيوش الشام. وبعد هٰذه المعركة، بدأ الضعف والتدهور يدُبّ فى الأسرة الحاكمة بسبب: ضعف السلطة المركزية، واختلال نظام الحكم فى عهد كل من «بطليموس الرابع» و«بطليموس الخامس»، ما أدى إلى: اندلاع الثورات بين المِصريين، والاعتداء على ممتلكات مِصر الخارجية. هٰذا بالإضافة إلى ازدياد نفوذ روما فى مِصر. وهٰذا النفوذ الأجنبى كان له الأثر فى اختيار الحكام البطالمة والاعتراف بهم، إلى أن صار نفوذ روما إلى فرض وصايتها على مِصر وتعيين حكامها.
أمّا دينيًا، ففى عهد البطالمة أصبحت عبادة الإسكندر دينًا رسميًا فى مِصر له كهنته، ويُعتبر «بطليموس» خليفته، وسلطته مستمدة من مصدر إلٰهى. وقد نادى «بطليموس الثاني» بأبيه وأمه إلٰهين، كما أقام المعابد لعبادتهما، ثم نادى بنفسه وزوجته إلٰهين، وهٰكذا بدأت سلسلة جديدة من الآلهة.
وقد اهتم البطالمة بالآداب والعلوم، فقد كانت شهرة الإسكندرية ـ التى جعلوها عاصمة البلاد ـ لا مثيلة لها فى مجالات: الأدب، والجغرافيا، والرياضة، والطب، وكانت مكانًا يفد إليه العلماء والحكماء والأدباء من كل فج وصوب. كذلك انتشر التعليم الإغريقى والآداب الإغريقية بين المِصريين فى المدن التى أقامها الإغريق فى مِصر. وقد ترجموا التوراة، وكتبوا التاريخ المِصرى، وجمعوا الكتب فى دار الكتب.
وفى العمارة، اهتموا بالعمائر العظيمة، وبناء المعابد فى كل مِصر، وبناء مدينة أرمنت، كما اهتموا بتحسين مدينة طيبة وبناء معابد بها، بالإضافة إلى بناء مدينة إدفو.
دار الكتب ودار التحف بالإسكندرية
اختلف المؤرخون فى تحديد الشخص الذى قام ببناء دارَين للكتب والتحف فى الإسكندرية: هل هو «بطليموس الأول»، أم ابنه «بطليموس الثانى»؟ إلا أنهم اتفقوا على الدور الذى قاموا به فى إنشاء وتجهيز ودعم الدارَين بالكتب والعلماء، فصارت الإسكندرية منارًا للعلوم ومزارًا لطلاب العلم من أنحاء العالم كافة. وقد كان ترتيب ونظام كل من المكتبة والمدرسة موضوعَين على النسق الإغريقى.
كان من أهم علمائها العالم «ارستاركس» الذى نادى بدوران الأرض ـ الحقيقة التى أُثبتت بالبراهين فى القرن السادس عشر. وأيضًا «خاريس» و«ارستيلاس»، وهما أول من قاس مواقع النجوم، واستخدمها العالم المِصرى «بطليموس» واليونانى «هاركس» فى تحقيق الظواهر الفلكية. كما يُعد «إراتوسوثينز» Eratosthenes أحد أعلام مدرسة الإسكندرية، وإليه يرجع الفضل فى قياس قطر الأرض بطريقة علمية صحيحة. أمّا أشهر علماء المدرسة، فهو العالم «بطليموس» الذى كتب فى الضوء والجغرافيا.
وقد ساعدت هٰذه المعاهد فى رفعة مكانة الإسكندرية العلمية، فقصدها كبار العلماء والفلاسفة منهم: «إقليدس» صاحب كتاب «الأصول فى الهندسة»، و«ايرنستين» و«بطليموس» الجغرافيان، و«هبارك» الفلكى، و«أبولونيوس» النحْوى.
أمّا دار الكتب، فقد جمع فيها ملوك البطالمة ما وصل إليهم من الكتب الثمينة فى علوم الأمم آنذاك، وقد كانت قسمين: الأول ملحق بدار التحف وهو القسم الكبير ويقال إنه كان به 700 ألف كتاب تقريبا، والثانى القسم الأصغر وكان ملحقًا بمعبد «السِّرابيوم». وكانت الكتب مدونة على ورق البردى والرقوق فى شكل لفائف. ومن اهتمام الملوك بأمر دار الكتب أن «بطليموس الثالث» أصدر أمرًا بتسليم القادمين من الخارج ما لديهم من كتب بمجرد وصولهم مِصر، لكى تودع فى دار كتب الإسكندرية فى حال عدم وجود نسخ منها بالمكتبة، مع عمل نسخة من هٰذه الكتب تُعطى لأصحابها بدلًا من الأصلية. وقاموا أيضًا باستعارة النسخ الأصلية لكتابات كبار العلماء من أثينا، ورد إليهم النسخ التى تم نسخها وليس الأصل و… والحديث عن مِصر لا ينتهى…!