No Result
View All Result
تحدثنا فى المقالة السابقة عن «البابا خائيل» وما تعرض له من آلام وسَجن مع أسقف أوسيم «أنبا مويسيس» وغيره من الأقباط، ما أثار بعضهم إلى الثورة على الوالى. ثم اندلاع الثورات على «مروان» بعد هُروبه إلى «مِصر» وفِراره منها بعد حرقه «الفُسطاط»، عابرًا نهر «النيل» مع اقتراب قوات الجيش العباسىّ من «غزة»، وحرقه لبعض المدن وتخريبها فى شرق الدلتا، وأمره بإحراق جميع المراكب فى «مِصر» وما يُستطاع إحراقه من المدن والكُوَر، وتخريب ما أمكن فى الوجه البحْرى!! وإلحاقه بـ«مِصر» وأهلها ومدنها وحرثها ونسلها وحيواناتها وأموالها خرابًا هائلًا!!! وهٰكذا لم تجنِ «مِصر» منه إلا الخراب والدمار؛ كذٰلك فإنه كان يظن أن الخُراسانيِّين إن أتَوا إلى الضفة الشرقية «للنيل» ووجدوها خالية من الناس والبهائم والغلات، ولم يجدوا مراكب يركبونها فيها، فإنهم يرجَعون من حيث أتَوا. ثم اصطحابه البابا البطريرك والمسجونين معه، حيث تعرضوا جميعهم للتعذيب والاستهانة أمام الجيشَين!! ورأينا أنه عندما قرر «مروان» قتلهم، قال له ابنه الأكبر «عُبيد الله»: تمهل يا أبى! فعدَل عن قراره، وعادوا إلى الحبس مرة ثانية. وتذكر إحدى المخطوطات، أنه فى تلك الأثناء، كان أحد كبار الرجال القبط يدعى «ابن قُسْطَس»، وكان خيِّرًا وشجاعًا، عكف على خدمة «البابا خائيل» ومن معه من المحبوسين بزيارتهم فى سجنهم يوميًّا وتقديم إليهم حاجاتهم.ثم فى أثناء تواجُه الجيشين، كان أن ترك «مروان» جنوده يعبثون فى أرض «مِصر»، ويقومون بكثير من عمليات القتل والنهب والحرق فى أنحاء القطر كافةً، حتى إن أنين المِصريِّين جميعًا قد بدأ يعلو ويتصاعد؛ ويذكر المؤرخون: «ولم تقتصر أعمال العنف التى تمادَوا فيها على المَِنطَِقة التى كان (مروان) قد نصب خيامه فيها، بل امتدت إلى أقصى (الصَّعيد). فذاق المِصريُّون الأهوال على أيدى الجند. وقد ضاعف هٰؤلاء الجند تنكيلهم بالرهبان والراهبات، وأمعنوا فى إحراق الأديرة». وهٰكذا، صارت تلك الحِقبة الصعبة من الحِقَب المظلمة التى مرت على المِصريِّين، وذٰلك من شدة ما قاسَوه فيها من آلام.
كذٰلك أحرق «مروان» الجسرين اللذين يصلان «الفُسطاط» بكل من «جزيرة الروضة» و«الجيزة»، إلا أن الجيش العباسى استطاع أن يعبر «النيل» بعد أن أرشده بعض الأهالى إلى مواضع مخّاضات نهر «النيل»؛ فاستطاع الجُنود العُبور حيث ضفة «النيل» الغربية. ولم يجد «مروان» سبيلًا سوى الهرب من وجه هذا الجيش الزاحف عليه، متجهًا نحو صَعيد «مِصر»، بعد أن أشعل النيران فى المتنَزَّهات بـ«الجيزة» فى محاولة منه لتعطيل أعدائه من متابعته، وبخاصة بعد أن نقص عدد جنوده من ٨٠٠٠ إلى ٤٠٠ جندى. ترك «مروان» وراءه «البابا خائيل» ومن معه فى السجن، فقام بعض المِصريِّين المسلمين بفتح أبواب السجن وإطلاق سراحهم، كما قاموا بحمايتهم وتوصيلهم بكل كرامة إلى مكان إقامة «أنبا بطرس» أسقف «الجيزة» آنذاك.
ومع نهاية الحكم الأُمَوىّ، دارت معركة أخيرة عند بلدة «بُوصير» التى تقع فى «الواسطى» أو «الفيوم»، انتهت بانتصار العباسيِّين فيها على «مروان». وكان بعد فِراره نحو «الصَّعيد»، أنه لجأ إلى الاحتماء فى كنيسة بـ«أبى صير» مختبئًا فيها؛ إلا أن بعض جُنوده خانوه وكشفوا للعباسيِّين مكانه فتمكنوا من قتله، فى حين هرب ابناه إلى «الحبشة» حيث قُتل أحدهما وهرب الآخر إلى «فَِلَسطين»، كما قُتل كثير من أنصار «بنى أمية» فى «مِصر» وأُسر بعضٌ آخر. وبمقتل «مروان» وإرسال رأسه إلى «العراق»، انتهت دولة «بنى أُمَيَّة» التى استمرت قُرابة إحدى وتسعين سنة، وقيام دولة «العباسيِّين»؛ وقد ذكر هذا أيضًا «ابن التَّغرى».
ومع قيام الخلافة العباسية فى «مِصر»، اتصل العباسيُّون بـ«البابا خائيل» وأحسنوا إليه، وأعفَوا «البشموريِّين» من الجزية. إلا أن الأمور لم تستمر فى أمن وسلام، فقد تعاقبت الوقائع ـ التى سنتكلم عنها فى موضعها ـ مع ذاك الأب البطريرك الذى ذكر المؤرخون عنه أنه كان: «ذا وجه باسم وضاء وقامة معتدلة، هادئًا وقورًا، وكان تعليمه كالسيف القاطع للمبتدعين وكالمِلح لذوى الإيمان المستقيم؛ وكانت يد الرب معه أينما سار وحيثما حل».
وفى تلك المرحلة الصعبة، كان «أنبا مُوْيسيس» أسقف أوسيم من الشخصيات البارزة على المستوى الكنسى، وأيضًا لدى وُلاة ذٰلك العصر.
«أنبا مُوْيسيس» أسقف أوسيم
من أشهر شخصيات ذلك الزمان. وُلد من أسرة مَسيحية نشَّأته على الفضائل الكثيرة مثل: المحبة، والطهارة، والشجاعة. وعندما بدأت رغبة الرهبنة تنبِض فى قلبه، شجعه والداه على السلوك فى هٰذا الطريق الصعب؛ وبالفعل اتجه إلى برِّية «شيهيت» وصار راهبًا وتلميذًا لدى أحد الشُّيوخ القديسين مدة ثمانى عشْرة سنة. وعُرفت عنه الفضيلة والتقوى فاختير أسقفًا لـ«أوسيم» بعد نياحة أسقفها؛ وكان ذٰلك فى حَبريّة البابا «ثيئودورُس» الخامس والأربعين فى بطاركة الكرازة المَرقسية.
اهتم «أنبا مُوْيسيس» برعاية شعبه، رافضًا أن يقتنى أى شىء فى كل زمان حياته. وقد اهتم بسلامة الإيمان فوعظ أتباع «مِيلِيتُس» ـ المنشق على الكنيسة ـ بالتوبة، ولم يقبلوا فأبعدهم. وقد كان لديه موهبة صنع الآيات والمعجزات فشفى كثيرين. وكان محبوبًا من الشعب المِصرى بأسره، بمسلميه ومَسيحيِّيه، وكانوا يلتقونه يومَى السبت والأحد. أيضًا تنبأ عن وقائع كثيرة قبل حدوثها. وفى أوقات الاضطهادات لم يترك رعيته، بل كان يجول بينها يثبِّتها على إيمانها؛ وقد تنبأ عن انتهاء زمن الاضطهاد والضيقة، وهلاك من يضطهد شعبه، وقد حدث ذٰلك! حتى إنه عندما علِم الوالى «حَوْثَرة» بما قاله الأسقف الشيخ، قرَّبه إليه وكان يستشيره فى بعض الأمور المهمة.
وذات مرة، حدث صراع بين «الكنيسة الأرثوذكسية» و«الملكانيَّين» على الكنائس، وقد استخدم الملكانيُّون الرشوة للحصول على أمر بأخذ تلك الكنائس. فسأل بعضٌ «أنبا مُوْيسيس» فى دفع رَُِشوة لئلا تصير كنائسهم لآخرين، لٰكنه رفض ونصحهم بألا يسلكوا طريق الرَُِّشوة، وأن الله سيدبر جميع الأمور، وهٰكذا انتهى الأمر.
وعندما رأى «أنبا مُوْيسيس» جُنود «مروان» يقتادون البابا البطريرك، تبِعه قائلًا: «هٰذا هو اليوم الذى أتوقعه، ومن أراد أن يبذُِل نفسه، فليتبعنى، لأنى أشتهى من زمان أن أسفِك دمى الدنِس إزاء الدم الزكىّ المسفوك عنا. ولٰكنْ عظيم هو حَُزَْنى! لأن جيل القديسين قد اضمحل وافتقرنا جدًّا إذ لا نجد إنسانًا يشاركنا فى هٰذه التضحية». وأمام الوالى، طُرح الأسقف الشيخ، وضُرب، وعُذب، وهو يحتمل بصبر وصمت عظيمين!! كل هٰذا إلى جانب الإهانات والمذلة ونَتْف لحيته هو و«البابا خائيل» أمام الشعب!! وكان العساكر حين رأَوا ما يتعرض له «أنبا مويسيس» أنهم طالبوه بتقديم بعض أموال الكنيسة فى مقابل عدم تنفيذ أوامر الضرب أو التعذيب فيه، فكان يُجيبهم أن هٰذه الأموال لا تختص به بل هى أموال الله وهو مؤتَمن عليها، ولا يستطيع أن يضيعها فى أمور تتعلق به هو؛ فكانوا يتعجبون من أمانته ومحبته لله أكثر من محبته لذاته وتخليصها من الشدائد.
وحين أمر الوالى بقطع رأس «البابا خائيل»، أسرع «أنبا مُوْيسيس» خلفه لا يريد تركه، فحاول السياف منعه من أن يتبعهما، إلا أنه أصر على مرافقة البابا. وقد تدخل الله فى اللحظات الأخيرة، فعدَل الوالى عن قرار الموت، ولكنه طرحهما فى السجن مع كثيرين بعد أن رُبطت أرجلهم بالسلاسل الحديدية. ووسْط الشدة والآلام، تنبأ «أنبا مُوْيسيس» أنهم سيخرجون سالمين، فقال: «لن يقتلونا! ولٰكننا سنظل محبوسين حتى يموت «مروان»؛ وهٰذا ما حدث بعد استيلاء العباسيِّين على «مِصر». وظل «أنبا مُوْيسيس» مرافقًا «للبابا خائيل» فى مواقف كثيرة تعرض لها فى أثناء حكم العباسيِّين، و… وعن مصر الحلوة الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأُرثوذكسى
No Result
View All Result