بدأنا سلسلة من المقالات عن «مِصر الحلوة» فى كل عصورها وفى كل ظروفها، فى شعبها الذى يعشق الحرية، شعبها المبدع الذى يخط صفحات تاريخها؛ بل يمتد إبداعه إلى رسم تاريخ العالم بأسره من حوله. وأيضًا فى جيشها الذى حفر على جدران التاريخ وعلَّم العالم معنى «الوطن» عندما هب ضد الهكسوس، وضد الفرس، وضد البطالمة الطغاة. وأيضًا عن أبناء جيشها الذين لقنوا حكامهم درسًا عمن هم المِصريون، وكيف يمكنهم أن يصنعوا المعجزات وأن يغيروا الهزيمة نصرًا كما حدث فى موقعة رفح 217 ق. م. فى عهد «بطليموس الرابع» فقد هرب جيش الملك البطليمى من الجنود المرتزقة بعد هزيمة منكرة من جيوش سوريا ولم يناصره إلا أبناء الشعب المِصرى محولين الهزيمة إلى نصر.
تحدثنا عن مِصر أرض الجمال، وأرض البركات التى لجأ إليها رجال الله. ثم تحدثنا عن مِصر بلد التعددية، وبدأنا بالتعددية فى الحضارات، فقدمنا الحضارة الفرعونية فى ظل الأُسر الثلاثين التى حكمت مِصر، ثم الحضارة الإغريقية من فتح الإسكندر مِصر وطوال حكم أسر البطالمة على مِصر حكمًا مستقلًا. وقد قدمنا هذا العصر بشىء من التفصيل للوقوف على تاريخ هذا الشعب العظيم ـ الذى قاوم كل دخول أجنبى فى شؤون بلاده ـ ودوره فى صنع التاريخ.
وهنا نبدأ مرحلة جديدة من تاريخ حضارات الشعب المِصرى، وإن فقدت مِصر استقلالها بأن تصبح ولاية رومانية إلا أنها استمرت مِصر الشامخة الأبية التى يرفض شعبها كل ظلم واستبداد.
مِصر ولاية رومانية
يمكن اعتبار عام 44 ق. م هو بداية الإمبراطورية الرومانية؛ وذلك مع إعلان «يوليوس قيصر» نفسه إمبراطورًا لروما. وقد اتسعت الإمبراطورية فى كل العالم؛ فقد تملكت كل الأراضى المقدونية فى الشرق، وبلاد الإغريق فى اليونان، وأصبحت حدود الإمبراطورية الرومانية: من إسبانيا غربًا إلى السواحل الغربية لآسيا الصغرى شرقًا، بالإضافة إلى الأراضى القرطاچية فى شمال أفريقيا. ثم انقسمت الإمبراطورية إلى إمبراطوريتين: إحداهما فى الغرب وعاصمتها روما، والأخرى فى الشرق وعاصمتها القسطنطينية ويُطلق عليها الإمبراطورية البيزنطية.
وفى ذلك الحين كانت مِصر من أعظم الدول قوة بل أهمها؛ ولذلك اهتمت روما بكل ما يحدث فى مِصر واغتنمت كل فرصة للدخول فى شؤونها، فقد تدخلت فى الصراعات التى كانت تحدث فى أسرة البطالمة، واعترفت بالملوك وتنصيبهم إلى أن أصبحت مِصر ولاية رومانية بعد انتصار «أوكتافيوس» على «أنطونيوس» وانتحاره ثم انتحار «كليوباترا». وقد أصبح «أوكتافيوس» قيصر روما ولُقب باسم «أُغسطس قيصر». وقد ظلت مِصر تحت حكم الرومان من عام 30 ق. م وحتى 640 م بدخول الإسلام مِصر على يد عمرو بن العاص.
وقد تكونت الحضارة القبطية فى مِصر فى خلال القرون الستة الأولى للميلاد. وسنبدأ فى استعراض أهم حِقَب الحكم الرومانى فى مِصر والتى كان لها التأثير فى حضارتها وشعبها.
أُغسطس قيصر (29 ق. م – 14 م)
قام «أوكتافيوس» بقتل ولدَى «كليوبترا» بعد دخوله مِصر، وذكر المؤرخون أنه بهذه المناسبة قد أُصدرت عُملة تاريخية كُتب عليها «فتْح مِصر»، وذكر القيصر ضمه مِصر فى السجلات الرسمية لروما. وقد كانت الولايات الرومانية مُقسمة إلى ولايات خاضعة للإمبراطور، وولايات خاضعة للسناتو (مجلس الشيوخ الرومانى) حيث كانت مِصر تابعة للإمبراطور مباشرة، والقيصر هو الذى يعيِّن واليها الذى كان يُلقَّب «حاكم عام الإسكندرية ومِصر».
وقد كانت مِصر مهمة لروما؛ فهى المصدر الرئيسى للقمح والأموال مما جعل قيصر روما يسيطر على مِصر من خلال تعيين حكامها بنفسه، وإقصاء أعضاء السناتو عن مِصر؛ فلم يكن مسموحًا لأحد بزيارة مِصر إلا بإذن خاص من القيصر؛ وفى هذا يقول المؤرخ الرومانى «تاكيتوس» – كما ذكر د. مصطفى العبادى: [إن من بين أسرار توطيد حكم أُغسطس، أنه أمَّن مِصر عن طريق منع أعضاء السناتو والشخصيات البارزة من الفرسان الرومان من دخولها إلا بإذنه، وذٰلك حتى لا يصيب أحد إيطاليا بمجاعة عن طريق السيطرة على تلك الولاية ومنافذها البرية والبحْرية، فيصمد بقوة مهما كانت صغيرة أمام جيوش عظيمة]. وأيضًا نشر الحاميات العسكرية فى أقطار البلاد. وقد فرضت روما على مِصر دفع أموال كثيرة لروما.
وقد قام «أُغسطس قيصر» أيضًا بالقضاء على النشاط السياسى ليُحكم قبضته على مِصر؛ فلم يسمح للسكندريين بأن يكون لهم مجلس تشريعى لئلا يقوى أى نشاط سياسى ضد روما. وفى المقابل، قدَّموا الكثير من الامتيازات إلى اليهود فى مِصر. وقد أضعف نفوذ الكهنة من خلال ضم المعابد إلى الحكومة. إلا أن «أُغسطس قيصر» ترك للمِصريين حرية التمسك بديانتهم وحرية التعبد، وعدم الدخول فى شؤون عقائدهم فعمل المِصريون على تجديد الهياكل فى جميع أنحاء مِصر، وخلَّدوا اسم «أُغسطس قيصر» على مبانيهم. وقد أصبح الإمبراطور الرومانى هو الملك الرسمى للبلاد ـ متمثلاً بالفراعنة وملقَّبًا بالألقاب الفرعونية.
أ. كورنيليوس غالوس
كان أول وُلاة مِصر، وقد قام بعدد من الإصلاحات فى مِصر؛ وبخاصة ما يتعلق بالزراعة من تطهير التُّرع والخُلجان وإقامة القناطر والجسور. كذلك واجه ثورة المِصريين بعد مغادرة «أُغسطس قيصر» مِصر، التى كانت قد اندلعت بسبب الضرائب الجديدة التى فرضها القيصر على الشعب. وقد كانت الثورة عارمة فى عدة مدن إلا أنها كانت على أشدها فى مدينة «طيبة»؛ حتى إن «غالوس» اتجه بالجيش إلى السيطرة عليها، وقد ضيَّق على أهلها وتمكن من فرض سَطوته ونهب البلاد. وقد أدت انتصاراته وقمع الثورة إلى تكبره وتجبره؛ فأمر بنحت التماثيل على صورته مما أثار «أغسطس قيصر» فقام بخلعه، واختلف المؤرخون فى أمر نفيه إلا أنهم اتفقوا على أنه انتحر. وعُيِّن والٍياً على مِصر إلا أن المؤرخين اختلفوا فى ترتيب الوُلاة.
ب. بطرنيوس
واجه ثورة فى الإسكندرية إلا أنه استطاع فرض سيطرته على الشعب، وقد قام بإرسال جيش إلى بلاد العرب لإخضاعهم تأمينًا للطرق التِّجارية لمِصر. ولم تكُن الحملة التى استمرت قُرابة السنة موفَّقة. وقد انتهز أهل السودان فرصة انشغال الجنود وتغيبهم عن الحدود المِصرية فقاموا بتجهيز جيش واستطاعوا الاستيلاء على أُسوان؛ إلا أن «بطرنيوس» قاتلهم وهزمهم، وعقد صلحاً مع «أغسطس قيصر» نفسه. وبعد حرب ضد السودان وانتصاره، عاد «بطرنيوس» إلى إدارة البلاد وتدبير أمورها حسنًا، ثم أعقبه «آليوس غالوس».
ج. آليوس غالوس
كان قائد الجيش لتأمين الطرق التِّجارية المِصرية والتى لم تأتِ حملته بالنتائج المَرجُوَّة. وبعد أن صار حاكمًا لمِصر سار إلى صعيدها مصطحبًا أحد الجغرافيين «اسطرابونس»؛ لاستكشاف مواقع البلاد ومعرفة كل ما يخصها. وامتدت مدة ولايته حتى موت «أُغسطس قيصر». ومن أهم الأحداث فى مِصر وقت حكم «أغسطس قيصر» هروب العائلة المقدسة إلى مِصر… والذى سيأتى الحديث عنه فى موقعه و… والحديث عن مِصر لا ينتهى…!