No Result
View All Result
تحدثنا فى المقالة السابقة عن الخليفة «أبى جعفر المنصور» ثانى خلفاء الدولة العباسية وأقواهم، وعن الصعاب الداخلية والخارجية التى اعترضته مع بَدء حكمه ومقدرته فى التغلب عليها، وقصته مع الشاعر عالم اللغة «الأصمعيّ» الذى استطاع أن يجعل الخليفة يعيد المكافآت للشعراء.
ويحكى عن «المنصور» المؤرخ «ابن الأثير» فيقول إنه رغِب فى تشييد سور حول «الكوفة» و«البصرة»، وعزم على جمع تكلِفته من سكان المدينتين، ولٰكنّ عماله أوضحوا له صعوبة حصر الأعداد. فما كان من الخليفة إلا أنه جعل مناديًا يطوف المدينتين، معلنًا لهم أن الخليفة سوف يهب لكل منهم خمسة دراهم؛ ثم قام بفرض ضريبة مقدارها أربعون درهمًا على كل من دوَّن اسمه فى قوائم المنحة! فقال فى ذٰلك أحد الشعراء:
يَا لَقَوْمِ مَا لَقِينَا مِنْ أَمِيرِ الْمُؤْمِنِينَا قَسَمَ الْخَمْسَةَ فِينَا فَجَبَانَا أَرْبَعِينَا!
تأسيس «بغداد»
كان مقر الخلافة هو مدينة «الهاشمية». لٰكن «المنصور» كان يرغب فى الابتعاد عن «الكوفة»؛ فأخذ فى البحث عن موضع جديد لبناء مدينة تكون العاصمة الجديدة فأسس مدينة «بغداد» عام ١٤٥هـ (٧٦٣م)؛ وقيل إنه ظل يبحث عن مكان يشيّد فيه تلك المدينة، فبات ليلة فى موضع يُدعى «موضع القصر» راق له فأمر ببناء مدينة «بغداد» فيه ووضَع حجر أساسها بنفسه. وأمر «المنصور» بإحضار الصناع والعمال والمهندسين والحكماء والعلماء؛ فبُنيت الأجزاء المهمة فى المدينة فى مدة عام وكمَِلت فى أربعة أعوام.
تقع مدينة «بغداد» على الضَِّفة الغربية من «نهر دجلة»، فى مكان متوسط بين بلاد العرب و«الشام» و«أرمينيا» وبلاد المشرق؛ وهى مستديرة الشكل، يحيط بها سور أُطلق عليه «السور الأعظم» به أربع بوابات: «باب الشام» ويقود إلى بلاد «الشام»، و«باب الكوفة» حيث بلدة «الكوفة»، و«باب البصرة» الذى يقود إلى «البصرة»، و«باب خُراسان» حيث الطريق إلى دولة «فارس»؛ وفى الداخل بُنى فى وسط المدينة قصر الخليفة المسمى «قصر الخُلد»، وبها أيضًا «جامع المنصور»، ودواوين الحكومة، ومساكن الناس، والجيش. وقد أحضر الخليفة إلى «بغداد» العلماء من كل بلد فنشطت الحركة العلمية فيها وصارت عاصمة الخلافة العباسية.
استمر «المنصور» يعمل بجِد فى تدعيم الدولة حتى بلغت شأنًا عاليًا فى ذٰلك الوقت؛ وعندما شعر بدنو أجله استحضر وليّ عهده «مُحمد المهديّ» وأوصاه بالبلاد، ثم تُوُفى فى عام ١٥٨هـ (٧٧٥م) وهو فى طريقه إلى الحَج، بعد أن حكم قرابة اثنين وعشرين عامًا.
أما عن «مِصر»، فكما ذكرنا سابقًا أن «أبا جعفر المنصور» أقر «صالح بن علي» على حكمها، ومن بعده «أبا العون» ثم عزله ووضع بدلاً منه «موسى بن كعب».
«موسى بن كعب» (١٤١هـ) (٧٥٨-٧٥٩م)
هو «موسى بن كعب بن عُيَيْنَة التميمي»؛ ولاه الخليفة «أبو جعفر المنصور» على «مِصر» بعد أن عزل «أبا العون». وهو أول من بايع «أبا العباس» فى خلافته. وكان يجول البلاد داعيًا الناس إلى مسانده العباسيِّين، إلى أن قُبض عليه من قبل الأُمَوييِّن فقاسى الشدائد والأهوال بسبب هٰذه الدعوة، حتى إنه لُجم بلجام حِمار وجُذب منه فتكسرت أسنانه! وكان يردد فى أثناء ولايته على «مِصر»: «كانت لنا أسنان وليس عندنا خبز، فلما جاء الخبز ذهبت الأسنان»! وقد جل الخليفة «أبو جعفر» قدره وعظّمه فولاه على الشرَْطة، ثم ولاه «مِصر». وعند وصوله «مِصر»، سكن «موسى بن كعب» فى مِنطَقة العسكر، وأمر جنده ألا يتحدثوا معه أو يطلبوا مقابلته إلا فى الأمور الهامة فقط، فلم يكُن يلقاه أيُّ إنسان إلا من كان له طلب، أو أذن له هو بذٰلك. ثم عزله الخليفة بعد ذٰلك بقليل، كاتبًا إليه: «إنى عزلتُك من غير سَُخَْط، ولٰكن بلغنى أن عاملاً يُقتل بـ«مِصر» يقال له «موسى»، فكرِهتُ أن تكونه.»! ثم ولى «مُحمد بن الأشعث» على «مِصر»؛ فغادر «موسى بن كعب» من «مصر» بعد مدة حكم استمرت سبعة أشهر وبضعة أيام؛ ويذكر بعض المؤرخين أن الخليفة أكرمه عند وصلوه إليه وولاه الشرَْطة مرة ثانية، ثم تُوُفى بعدئذ بقليل، إلا أن بعضًا قال أنه مات فى أثناء رحلته.
«مُحمد بن الأشعث» (١٤١-١٤٣هـ) (٧٥٩-٧٦م)
ويُدعى «مُحمد بن الأشعث بن عقبة بن أهبان الخُزاعيّ»؛ تولى حكم «مِصر» من قِبل الخليفة «أبى جعفر». وكان «ابن الأشعث» شديد الذكاء، ويملِك شجاعة، وهو أحد أمراء «بنى العباس» الكبار. وفى أثناء حكمه «مِصر»، أرسل له الخليفة «نوفل بن الفرات» يعرض عليه ضمان خَراج «مِصر»، فإن قبِل «ابن الأشعث» يشهد «نوفل» عليه بقَبوله الأمر، وإن رفض يتولى «نوفل» أمر الضرائب التى تُجمع؛ وعند عرض الأمر عليه، لم يقبل «مُحمد بن الأشعث» فأصبحت الدواوين وأمور الضرائب مع «نوفل».
وفى ذٰلك الزمان، أرسل «ابن الأشعث» جيشًا إلى «المغرب»، لٰكنه تلقى هزيمة هناك. وفى عام (١٤٢هـ) (٧٥٩م)، توجه إلى «الإسكندرية»، وترك حكم «مِصر» إلى «مُحمد بن معاوية»، ثم عُزل بعدئذ بزمن وجيز عن حكم «مِصر» حيث تولى أمرها «حُميد بن قَحطَبة» الذى كانت ولايته على «مِصر» سنة واحدة وشهرًا واحدًا. وكان بعد عزل «ابن الأشعث» عن «مِصر» أنه توجه إلى الخليفة فأكرمه وجعله من أكابر أمرائه؛ وقد صحب «ابنُ الأشعث» ابنَ المنصور «مُحمدَ المهديّ» فى حربه ضد «الروم»، لٰكنه مرِض فى الطريق ومات.
«حُميد بن قَحطَبة» (١٤٣-١٤٤هـ) (٧٦-٧٦٢م)
هو «حُميد بن قَحطَبة بن شيب بن خالد بن معدان الطائيّ»؛ تولى شُؤون «مِصر» من قِبل الخليفة «أبى جعفر» بعد عزل «مُحمد بن الأشعث». اتصف «ابن قَحطَبة» بالشجاعة والإقدام وكثرة الخبرة بالحُروب؛ أتى إلى «مِصر» بعدد كبير من الجند، ثم أرسل إليه الخليفة عددًا آخر لغزو «أفريقيا»؛ فوضع على رأس الجيش «أبا الأحوص العبديّ». وفى «قرطبة»، تقاتل الجيشان؛ فهُزم «أبو الأحوص» وعاد إلى «مِصر». فخرج «حُميد» بنفسه على رأس الجيش حتى وصل إلى «بَرقَة» وهزم جيش «أبى الخطاب» وعاد إلى «مِصر» منتصرًا؛ إلى أن عزله الخليفة بعد أن تولى حكم «مِصر» عامًا واحدًا وقُرابة الشهرين؛ وبعد خروجه من «مِصر»، توجه إلى الخليفة الذى أكرمه وضمه إلى أمرائه ثم أرسله إلى غزو «أرمينيا»، ثم «كابُل»؛ وبعدئذ تولى حكم «خُراسان» حتى مات فى أثناء خلافة «المهديّ».
«يَزيد بن حاتم» (١٤٤-١٥٢هـ) (٧٦٢-٧٦٩م)
هو «يَزيد بن حاتم بن قَبِيصة»؛ تولى أمور «مِصر» من قِبل الخليفة، وكان شجاعًا كريمًا يمدحه الشعراء حتى نظم أحدهم فيه:
لَشَتَّانَِ مَا بَيْنَ الْيَزِيدَيْنِ فِى النَّدَى يَزِيدِ سُلَيمٍ وَالْأَغَرِّ ابْنِ حَاتَمِ
فَلَا يَحسَِبُ التِّمْتَامُ أَنِّى هَجَوْتُهُ وَلَكِنَّنِى فَضَّلْتُ أَهْلَ الْمَكَارِمِ
وقد ظهرت فى «مِصر»، فى أثناء ولايته، دعوة العَلَويِّين التى مال إليها كثيرون حتى ورد إليهم خبر مقتل «إبراهيم بن عبد الله بن حسن بن الحسن». وقد ضم له الخليفة برقة على «مِصر» فى عام ١٤٩هـ (٧٦٦م). وفى أيامه، ثار قِبط «سخا» فى الوجه البحْري؛ فأرسل جيشًا كثيفًا قاتله القبط وانتصروا عليه؛ فعزله الخليفة عن ولاية «مِصر» بعد أن كان قد قضى بها قُرابة سبع سنين وأربعة أشهر. ثم تولى أمر «مِصر» من بعده «عبد الله بن عبد الرحمٰن بن معاوية بن حُدَيج»، فى حين تولى «يَزيد بن حاتم» بلاد «المغرب» وظل بها حتى تُوُفى بها.
فى ذٰلك الوقت، كان «البابا خائيل الأول» قد تُوُفى واختير «البابا مينا الأول» ليصير السابع والأربعين فى باباوات «الإسكندرية»، و… وعن «مِصر الحُلوة» الحديث لا ينتهى…!
* الأسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى
No Result
View All Result