No Result
View All Result
تكلمنا فى مقالة سابقة عن «البابا مرقس الثانى» البطريرك التاسع والأربعين فى بطاركة «الإسكندرية»، ولقائه والى «مِصر» الذى تولدت المحبة فى قلبه تجاه البابا البطريرك، واهتمام «البابا مرقس» ببناء الكنائس التى هُدّمت، وباتحاد «كنيسة الإسكندرية» مع «كنيسة أنطاكية»، وصلاته من أجل الأنفس التى ابتعدت عن الكنيسة وقَبول الله لصلاته بأن حضر رئيسهم ووالده وقدَّما توبة وطلبا أن يكونا فى رعية البابا. وقد ذكرنا أنه فى أيام ذلك الأب البطريرك، قد هجم جراد كثيف على مدينتى «الإسكندرية» و«البحيرة»، وأتلف جميع زرع الأرض، فحزِن البابا وأمر الشعب أن يرفعوا الصلوات إلى الله من أجل طلب مراحمه، فمات الجراد.
وقد عُرف هذا الأب البطريرك برحمته الكثيرة: إذ فى ذلك الزمان قد أتى إلى «الإسكندرية» قوم معهم سبايا يبيعونهم عبيدًا، فكان البابا يشترى كثيرين ويحررهم من العبودية، فوصل عددهم إلى ستة آلاف نفس، فأحبه الجميع. إلا أن البابا قد تعرض لأزمنة طويلة من الآلام والأتعاب: إذ حدث فى تلك الأيام أن واليًا كان فى مدينة «الإسكندرية» ثار عليه «اللَّخْميُّون» و«الجُذاميون» و«المدالجة» وأرادوا قتله وامتلاك المدينة، ما أدى إلى وقوع قتال بينه وبينهم، لكنهم لم يقدروا على الوقوف أمامه. وكان فى أثناء ذلك أن وصل إلى «الإسكندرية» شيخ كبير من «الأندلسيِّين»- وكان بـ«الإسكندرية» آنذاك عدد كبير من «الأندلسيِّين» اللاجئين إلى «مِصر»- فى وساطة منه بين «لَخْم» و«الأندلسيِّين» كى ما يساعدوه على قتل الوالى، فتمكنوا منه وقتلوه وتملكوا المدينة.
إلا أنه سريعًا ما تحولت الصداقة بين «الأندلسيِّين» و«اللَّخْميين» إلى عداوة ضارية وحرب شرسة: فقام أهل «الإسكندرية» بحمل السُّيوف وقتْل كل من وجدوه من «الأندلسيِّين» فى الأسواق والأزقة والحمامات والبُيوت حتى وصل عدد الأنفس التى قتلت ثمانين نفسًا، ما أثار حفيظة باقى «الأندلسيِّين» فقاموا على أهل «الإسكندرية» من «المسلمين» و«المَسيحيِّين» و«اليهود» يقتُلونهم، وقد ذُكر أن جثث القتلى آنذاك لم تجد من يواريها التراب «وأجساد كثير منهم صارت طعامًا لطير السماء ووُحوش الأرض»!!
وصل الأندلسيُّون إلى كنيسة المخلِّص التى كان «البابا مرقس الثانى» قد أتم بناءها، ووجدوا بعضًا من أصحابهم مقتولين قربها، فظنوا أن المَسيحيِّين قد قتلوهم! فأحرقوا الكنيسة، وانتشرت النيران بسرعة فائقة لتلتهم عددًا كبيرًا من المنازل والبنايات من حولها. فلما علِم البابا بما حدث، ملأ الحزن قلبه، وكان يتجول بين الإسكندريِّين يشددهم ويقوى قلوبهم وعزيمتهم، فوصل خبر عمله وجهده لإراحة الأنفس المتعبة إلى «الأندلسيِّين» فزادوا من الخناق عليه حتى اضطُر إلى ترك كرسيّه فى «الإسكندرية»، مقيمًا فى القفر، متنقلاً من بلد إلى آخر لئلا يقع فى أيديهم. وكان البابا لا يهدأ عن الصلاة والتضرع إلى الله أن يُزيل الشدة عن المدينة والشعب، وظل هكذا خمس سنوات، وبعد تلك المدة، طلب أحد أراخنة (كبار أو وُجهاء) الشعب- ويُدعى «مقارة بن ساث النبراوى»- إلى حاكم الشرق المثول بين يديه وقص عليه ما حدث من «الأندلسيِّين» فى «الإسكندرية»، وكيف أنهم نهبوا الأموال من الكنائس وحرقوها، حتى إن البابا صار يجول بين شعبه من مكان إلى آخر بسبب بطشهم، ثم طلب إلى الحاكم أن يكتُب للأب البطريرك كتابًا يقويه فيه، ويسمح له بضيافة «البابا مرقس الثانى» فى بيته، فأجاب الحاكم الأرْخُن «مقارة» إلى طلبه. وما إن أرسل ذلك الأرْخن الكتاب إلى البابا «مرقس» حتى حضر إلى «نبروه» وأقام هناك، لكنه ظل يهتم بكنائس «الإسكندرية» وبالدار البطريركية وبكنيسة الشهيد «مار مينا العجائبى» بمريوط.
وكان بعد ذلك أن تُوُفِّى البطريرك «كرياكوس» بـ«أنطاكية»، وجلس على الكرسى الأنطاكى البطريرك «ديونِسيوس» الذى أرسل بكتاب إلى بطريرك «الإسكندرية» يعْلمه فيها بتوبة بعض من المنشقين عن الكنيسة وعودتهم، ففرِح «البابا مرقس» بذلك وكتب إليه معبّرًا عن سروره بعودة الضالين، طالبًا صلواته من أجل وقائع «الإسكندرية» المأساوية. ولم يمر زمن طويل حتى تعرضت برِّية «وادى النطرون» التى يسكنها كثير من الرهبان للنهب والسلب، وقُتل عدد كبير من رهبانها وأُسروا، وهدِّمت بها الكنائس وقَلالى الرهبان (مساكنهم)، وصارت خَرِبة مُوحِشة. فزاد حزن الأب البطريرك وآلامه لأجل ما أصاب الكنائس والأماكن المقدسة، لكنه صبَر على آلامه، مصليًا إلى الله الذى أراد أن يُرِيحه من أتعابه فى هذا العالم، فكان أن تنيح فى ليلة عيد القيامة عام ٨١٩م بعد انتهاء الصلوات، وكلماته الأخيرة: «أُودعكم جميعكم الرب».
وكما ذكرنا سابقًا، فإن الخليفة «هارون الرشيد» كان قد تُوُفِّى فى زمن رئاسة «البابا مرقس الثانى» لكرسى «الإسكندرية»، بعد أن عهِد بالخلافة من بعده إلى ابنه «مُحمد الأمين» ثم لابنه «المأمون»، مع أن «المأمون» هو المتقدم فى العمر، إذ وُلد قبل أخيه «الأمين» بستة أشهر. وعندما تُوُفِّى «الرشيد»، كان «الأمين» فى «بغداد»، وجاء إليه أخوه «صالح» بالعباءة والسيف وسلمهما إلى أخيه «الأمين». عاد «الأمين» إلى قصر الخلافة وبايعه الشعب بالخلافة، كما أرسل إليه «المأمون» بالهدايا وبايعه أيضًا، وكذلك أخوه «القاسم»، ليصير سادس خلفاء الدولة العباسية.
الخليفة «مُحمد الأمين» (١٩٣-١٩٨هـ) (٨٠٩-٨١٣م)
عهِد الخليفة «الرشيد» بتربية «الأمين» وتهذيبه- كما أشرنا سابقًا- إلى «الفضل بن يَحيى البَرْمَكى»، فى حين قام «جعفر بن يَحيى» بتربية «المأمون»، وقد أتى ذلك التعليم والتهذيب بآثاره فى شخص «المأمون» بطريقة أوضح من «الأمين»، فقد اشتُهر بالحكمة وبعد النظر والتدين. وقد أدرك «الرشيد» ذلك الفارق فى الشخصية بين الأخوين فترك الشرق لحكم «المأمون». أمّا «الأمين» فقد اختلف المؤرخون فى الحكم عليه: فقد ذكر بعضهم أنه كان تُعوزه الحنكة السياسية، مستهترًا، مسرفًا، بلا تروٍّ، مع عدم قدرة على تبصر عواقب الأمور. وقد ذكر عنه أحد معاصريه ويسمى «سعيد بن حُميد»: «لما ملك (محمد): وجَّه إلى جميع البلدان فى طلب المُلهين (ذوى اللهو والمؤانسة) وضمهم إليه، وأجرى عليهم الأرزاق، ونافس فى ابتياع فُرَّْه الدواب (أخفها وأنشطها وأحسنها) وأحد الوُحوش والسباع والطير وغير ذلك، واحتجب عن إخوته وأهل بيته وقواده واستخف بهم، وقسم ما فى بُيوت الأموال وما بحضرته من الجواهر على خِصيانه (المقرَّبين من رجال دولته) وجُلسائه ومحدِّثيه، وحمل إليه ما كان فى «الرَّقة» من الجواهر والخزائن والسلاح، وأمر ببناء مجالس لمتنزهاته ومواضع خُلوته ولهوه ولَعِبه بـ«قصر الخُلد» و«الخيزرانية» و«بستان موسى» وغيرها، وأمر بعمل خمْس حَرّاقات (سفن فيها مرامى نيران يُرمى بها العدُو) فى «دجلة» على خلقة (شكل) الأسد والفيل والعقاب والحية والفرس، وأنفق فى عملها مالاً عظيماً»، كما ذكر عنه «الحُسين بن الضحاك»- وكان شاعر «الأمين»: «ابتنَى الأمير سفينة عظيمة أنفق عليها ثلاثة آلاف ألف درهم، واتخذ أخرى على خلقة شىء يكون فى البحر يقال له «الدُّلفين»! ووصفه «المسعودى»: «إن الأمين كان باسطًا يده بالعطاء، قبيح السيرة، ضعيف الرأى، سفاكًا للدماء، يركب هواه، ويُهمل أمره، ويتكل فى جليلات الخُطوب على غيره، ويثق بمن لا ينصحه»!! وكان يعتمد فى قراراته المصيرية على حُلم رآه!! وذلك على النقيض من «المأمون» الذى كان يلجأ إلى المشورة والنصح من رجاله وأنصاره، بينما ذكر آخَرون أن «الأمين» كان… وعن «مصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ
No Result
View All Result