No Result
View All Result
استكملنا فى المقالة السابقة رحلتنا فى حياة أ. د. يحيى الجمل وفكره: فتحدثنا عن محبته القوية لـ«مِصر»، وإيمانه العميق بالديمقراطية التى طالما انبرى للدفاع عنها فى كتاباته ومواقفه، وتلك المحبة العميقة التى ربطت بينه وبين المتنيح «البابا شنودة الثالث» فى عَلاقة توثقت بالأكثر مع رئاسته لهيئة الدفاع عن قداسته حين أصدر الرئيس «السادات» قرارًا يُلغى فيه القرار الجُمهورى السابق باعتماد انتخاب قداسته بطريركاً «للكنيسة القبطية الأرثوذكسية».
وهكذا نشأت بينه وبين «البابا شنودة» علاقة إنسانية ومحبة متبادلة اعتز بها كثيرًا، فكان يردد دائمًا: «وأنا شخصيًّا أعتز بعلاقتى الطيبة بل العميقة بقداسة (البابا شنودة الثالث) التى يعرفها الجميع». وقد ربطت محبة الشعر والقراءة بينهما، وكأنه رباط سرى لا يُدركه إلا من كانت القراءة عالمًا له يحمله فى رِحلات تجوب عقول كتابها وقلوبهم، فيذكر د. يحيى الجمل: «وكان قداسة البابا- إلى جوار مقامه الدينى- أديبًا، وشاعرًا، وذا بديهة حاضرة وروح للفكاهة ندَر أن يتمتع بها من فى مثل سنه ومن يحمل ما يحمله من أعباء وهُموم». ويحدثنا د. «يحيى» عن إعجابهما معًا بكتاب «قرية ظالمة» فيقول: «وكان هناك كتاب أصدره أستاذنا المرحوم د. (مُحمد كامل حسين) اسمه (قرية ظالمة)، وهذا الكتاب يروى أحداث اليوم الأخير فى حياة السيد المسيح- عليه السلام، وأشهد أننى لم أقرأ فى الآداب العربية أو الإنجليزية أو الفرنسية ما يضاهى هذا الكتاب روعةً، وكان قداسة البابا محبًّا لهذا الكتاب أيضًا شديد الإعجاب به.. ولكن المهم أنه فى فترة نفاد الكتاب وقبل إعادة طبعه، أعطانى قداسة البابا نسخة زائدة كانت عنده».
أمّا عن المواقف الإنسانية التى ربطت بينهما فهى كثيرة، إلا أن ما علق بذهن د. يحيى الجمل، وتحادث عنه كثيرًا هو ما وقع وقت إجراء عملية جراحية له، وكان المتنيح «البابا شنودة» آنذاك فى «أمريكا» للعلاج، إذ ما إن علِم قداسته بعد عودته من الخارج أنه فى المستشفى حتى توجه لزيارته للتو، وهو ما ترك أثرًا شديدًا فى نفس د. «يحيى» فوصف تلك الزيارة: «… وعندما عاد من رحلته، علِم أننى فى المستشفى، ففوجئتُ بأنه جاء لزيارتى ومباركتى فى المستشفى. كانت قمة الفرحة وقمة المفاجأة وقمة الغبطة عندما دخل علىّ ضابط بوليس كبير، قائلًا: لقد أُخطرنا الآن أن موكب قداسة (البابا شنودة الثالث) فى طريقه إلى المستشفى لزيارتك!! وكان حدثًا فى تاريخ المستشفى! وكانت لفتة كريمة مازلتُ أعتز بها وأذكرها، وأحتفظ بالصور التى التُقطت لهذه الزيارة التى خففت عنى عناء المرض».
كذلك عبّر د. «يحيى الجمل» فى مقالاته وأحاديثه عن تأثره الشديد بنياحة «البابا شنودة الثالث»، فقال: «مازلتُ أذكر يوم نياحته، وأنا واقف على المسرح أحتضنه والدُّموع تنهمر من عينى!! وأظن أننى كنت واحدًا من أواخر من تحدثوا لقداسته: ذلك أننى اتصلت بـ(أنبا إرميا) مساء يوم الخميس- قبل النياحة بيومين اثنين فقط- لأطمئن على صحة البابا، ولكن (أنبا إرميا) أعطى التليفون لقداسته، وقلتُ له: أريد أن أطمئن، وأنا أدعو لقداستك بالصحة، وأدعو لـ(مِصر) بالستر. فقال لى: لك محبتى ودعواتى، وكان هذا آخر ما سمعتُه منه، ولعله كان من أواخر الكلمات التى قالها قُبيل الانتقال إلى جوار ربه. ما أظن أن (مِصر) ودعت أحدًا من أبنائها البررة الذين أحبوها وأحبتهم بقدر ما ودعت (جمال عبدالناصر) قبل أكثر من أربعين عامًا وبقدر ما ودعت قداسة (البابا شنودة الثالث)».
محبة.. للجميع
امتلأ قلب الإنسان «يحيى الجمل» بمحبة عارمة لكل إنسان، وآمن بالمحبة وبالود وبالتآخى بين جميع المِصريِّين رافضًا كل أنواع إيذاء الآخرين، ففى مقالة له بعُنوان «حقًّا إنه شعب عظيم»، كتب عن عظمة المِصريِّين البسطاء الحقيقيِّين الذين يرتبطون بمشاعر دافئة تتدفق بينهم، فيتشاركون فى كل ما يمر بهم من أفراح وأحزان، فنجدهم يشُدون بعضهم أزر بعض دون النظر فى دين أو جنس أو عقيدة، إنه الشعب الطيب الأصيل. ففى ذكرى حادثة «كنيسة القديسين» بالإسكندرية كتب يقول: «… الشعب المِصرى بحق شعب حضارى، ضارِب بحضارته فى جُذور التاريخ، حقًّا إنه شعب عظيم. والذى أثار فى خاطرى هذه المشاعر الدافئة هو ذلك المنظر الذى رأيته بمناسبة ذكرى العُدوان الآثم على (كنيسة القديسين) بالإسكندرية: رأيتُ منظرًا حضاريًّا رائعًا، وجدتُ مسلمين ومسيحيِّين على باب الكنيسة، وفى داخل الكنيسة يشُد بعضهم على يد بعض، ورأيتُ سيدات مسلمات محجبات يحمِلن شموعًا مضاءة للتعبير عن مشاعرهن نحو إخوتهن وبنى جِلدتهن (عشيرتهن). مشاعر من الود الخالص تراها على تلك الوُجوه الطيبة». ثم ينتقل إلى وصف عَلاقات المودة بين الشعب الواحد: «وفى مواجهة الكنيسة، يوجد مسجد، ورأيت بعض الزينات تربِط المسجد بالكنيسة، فى منظر رائع عميق التعبير عن مدى التواصل والتراحم والقربى بين أبناء (مِصر) مهما اختلفت معتقداتهم الدينية».
وبحسب ما تعودناه دائمًا منه فى التعبير عن آرائه بصدق وصراحة، كتب معلنًا رفضه لأىّ مشهد من مشاهد التعصب والإرهاب: «إن الذى يحدث أحيانًا فى هذه الأيام الغريبة من مظاهر التعصب والتطرف هو نوع من التخلف العقلى، أو ما يمكن أن نسميه الرِّدة الحضارية، وليس جزءًا أصيلًا من التركيب النفسىّ للشعب المِصرى الذى عرَفناه فى القرى والنُّجوع: لا يفرق الناس هناك بين مِصرى ومِصرى».
أمّا عن رحلة حياة الإنسان «يحيى الجمل»، فقد تميزت بنضج عقلى منذ الصغر، إلى جانب مشاعر جياشة ملأت حياته منذ أن وعى الدنيا، فقد عاش فى كنف جَدته التى لم يعرف له أمًّا سواها، حتى تأتى أولى ذكريات له مع وفاتها بعد أن نهل من حبها كثيرًا، وفى المقابل فقد أيضًا بموتها كثيرًا: «لقد كان يسمع من الناس أنها جَدته، ولكنه لم يعرِف له أمًّا غيرها: فقد احتضنته وهو لم يجاوز العام إلا بشهور قليلة، وعاش معها فى تلك القرية من قرى (البحيرة) يَعِبّ (يملأ ويتجرع بكثرة) من حبها وحنانها عَبًّا». وبعد وفاة جَدته، بدأ حياة جديدة لم يعرِفها من قبل، فكتب: «هكذا بدأ حياته الجديدة ضائعًا أو كالضائع… ووقَّر فى قلبه الصغير- على غير وعى منه- أن جوعه إلى ذلك الحب يظل جوعًا أبديًّا بغير ارتواء».
وربما هو الطفل الصغير الذى وضع كل حزنه وألمه فى الانهماك فى التعلم، فبدأ رحلة تفوق على جميع أقرانه إذ حباه الله بالذكاء الشديد: «وأُدخل الصبى بعد ذلك- فيما يذكر- كتّاب القرية… وانهمك الصبى فيما أريدَ له، وأظهر وأظهر تفوقًا سريعًا على كل لِدانه (زملائه الصغار)…». وبدأت آفاقه بالقراءة تتفتح على العالم من حوله فيما يقرؤه من أخبار السياسة وغيرها. وفى تلك الأثناء، بدأ يشعر بحب جَده وجَدته لأبيه، وقد بادلهما الحب والإعجاب: «وكان الصبى الصغير معجبًا بذلك الجَد أيّما إعجاب! وكان محبًّا لجَدته أيّما حب! وكان لا يَلقَى من أيهما إلا كل الإعزاز والحنان والعطاء». و… وفى «مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ
No Result
View All Result