تحدثنا في المقالة السابقة عن المدة من عام 68م وحتى 98م التي حكم خلالها سبعة أباطرة؛ منهم ثلاثة في عام واحد، ورابعهم بدأ في العام نفسه واستمر حكمه عشْر سنوات. وقد حدث خراب أورُشليم في عهد “فسبسيان قيصر”، كما أُضطهد المسيحيون بشدة في عصر “دوميتان قيصر” الذي لم يُرد أن يكون هناك ملك آخر غيره لفهمه خطأً مُلك السيد المسيح. وأعقبه “نيرفا قيصر” الحاكم العادل الذي سمح للمسيحيين بالحرية الدينية و رَد من نُفِيَ منهم. وبعد وفاة “نيرفا” تولى الحكم “تراجان قيصر”.
“تراجان قيصر” (98م – 117م)
وُلد “تراجان قيصر” في بلاد الأندلس، وقد اشتُهر بين أمراء الدولة الرومانية برفعة النفس، وكان يُعد أفضلهم جميعًا. وقد كانت شهرته العسكرية محل شهادة الجميع. وعند موت ” نيرفا قيصر” كان بعيدًا عن روما، وقد علِم باختيار شيوخ مجلس روما إياه ليكون إمبراطورًا للبلاد، إلا أنه تأخر في الحضور. وقد كان اختياره للحكم مدعاة لقيام خلاف وصل إلى حد الفتنة، إلا أن هيبته ووقاره الشديدين لدى شعب روما حالا دون تفاقم الأمور، وهكذا صار سريعًا قيصر روما.
دخل “تراجان قيصر” روما في موكب يناقض عظمة من سبقه من أباطرة؛ فقد كان موكبه متواضعًا؛ لا عربة تُعتلى ولا جوادًا يُمتطى، بل كان ماشيًا تعلو وجهه بشاشة تستقبل كل من يلقاه. ومما أخبر أحد المؤرخين عنه عند اعتلائه عرش روما قوله: [أحب أن أصنع بجميع الناس ما كنتُ أحب أن يصنعه بي قيصر روما … فما أحبه لنفسي أحبه لأهل وطني وأبناء جنسي]. ولما استقر حكمه، بذل كل ما يملِك من جُهد لإصلاح شؤون الدولة حتى أعاد إليها مجدها القديم.
كان “تراجان قيصر” حَسَن التدبير في إدارة أمور البلاد. ولرغبته الشديدة في العمل على مصلحة البلاد أعطى مجلس الأحكام السلطة ليعمل بحسب ما تقتضيه هٰذه المصلحة، وبالمِثل القضاة والحكام ـ كلٌّ بحسب وظيفته ـ فقد كانت لهم منزلة عظيمة لديه. ومن مآثره أنه منع الحكم على الشخص الغائب لعدم إمكانه الدفاع عن نفسه.
وفي إدارته الجيدة وإدراكه عواقب الأمور قام بتخفيف الضرائب، كما قام بإنشاء القناطر والجسور، واهتم بإصلاح الطرق وتجديد الموانئ من أجل إنعاش حركة التجارة. ومن العجيب أنه أتم كل عمله هٰذا في عام واحد فقط؛ ما جعل أغنياء روما ورعيته يُشَيّدون هيكلًا باسمه تخليدًا له.
ولم يتوقف “تراجان” عند هٰذا الحد، بل قام بتجديد المباني، وإنشاء مكتبة عظيمة جدًا، وكان يجالس أهل الأدب والحكماء والفلاسفة؛ فكان من المقربين له: “جايوس بلينيوس كاسيليوس الثاني” المشهور باسم “بلينيوس الأصغر” الذي كان محاميًا ومؤلفًا وقاضيًا مشهودًا له بالصدق والاعتدال وشغْل العديد من المناصب المدنية والعسكرية.
ولأنه كان يصبو إلى توسيع الإمبراطورية الرومانية، لذا عمل على ضم بلاد الفلاق والبغدان ـ جنوب رومانيا ـ إليها، كما غزا بلاد عرب الحِجاز ـ أحد أقاليم شبه الجزيرة العربية ـ بعد أن وصله نبأ بخروجهم للإغارة على ممتلكات الدولة الرومانية في الشرق، وبعد معارك حامية الوطيس ضدهم، انتصر وضم الأقطار الحِجازية إلى روما. وضم أيضًا إليه بلاد فارس ـ إيران ـ وأرمينيا والجزيرة وبلاد الأكراد والعراق واليمن. ونتيجة هٰذه التوسعات والانتصارات هابه الملوك وأحبته رعيته.
وفي أيامه عاد اليهود إلى أورُشليم، وقرروا الخروج على طاعته، فأرسل جيشًا لمحاربتهم، وظلت الحرب بينهم زمانًا طويلًا. وقد حارب اليهود عددًا كبير من المدن التي تتبع روما، حتى وصلوا إلى مِصر والإسكندرية وقاتلوا ما فيها من جيوش رومانية وتغلبوا عليها وطردوا حاكم مِصر. فأرسل “تراجان” حاكمًا آخر وزوده بجيش عظيم. وظلت رحى الحرب تدور على أشدها بين الجانبين ـ خصوصا لقيام الفتن والنزاع بين يهوديّ الإسكندرية ويونانيّها لعداوة شديدة قديمة بينهما ـ حتى مات “تراجان” وملك من بعده “هارديان قيصر”.
وفي أيام “تراجان” كتب القديس يوحنا الإنجيل المعروف باسمه. وقد اضطهد المسيحيين بغِلظة وعنف؛ حتى إن عصره يُعد أشد عصور الاضطهاد عذابًا ووحشية. وهو أول إمبراطور في العالم يُعلن أن المسيحية ديانة محرمة بعد إصداره تشريعات صارمة ضد المسيحيين معتبرًا أن صلواتهم واجتماعاتهم الدينية تندرج تحت الجماعات السرية!
واستمرت الدولة الرومانية تعامل المسيحيين بهٰذه القوانين التي استنها تراجان مدةً طويلة تمتد إلى أكثر من مئتي سنة!
ويظهر عداء “تراجان” تجاه المسيحيين من الرد الذي كتبه على رسالة وصلته من “بليني” حاكم ولاية بيثينيَّة بآسيا الصغرى بين عامي 109 و 111م. فبليني هٰذا عَدّ المسيحية خرافة متطرفة لا دينًا، وأرسل إلى الإمبراطور “تراجان” يخبره بأن خرافة المسيحية تزداد انتشارًا في مدن آسيا وفي قراها أيضًا، وأنه أصبح لهٰذه الخرافة سلطان على الناس جميعًا من مختلف الأعمار، والمراكز، والأجناس، وأن المعابد الوثنية هُجرت، ونتيجة هٰذا كسَُدت تجارة ما يُقدم من قرابين للآلهة.
ورأى “بليني” أنه لكي يضع حدًا لانتشار المسيحية الطاغي أن يحكم على كثير من المسيحيين بالموت، وأن يُرسل مَن كان يتمتع بحقوق المواطنة الرومانية منهم إلى المحكمة الإمبراطورية بروما. وطلب في رسالته إلى الإمبراطور السماح بالمزيد من التشديد فيما يختص بطريقة معاملة المسيحيين وعدم مراعاة كِبر السن، واعتبار مجرد حمل صفة “مسيحي” جريمة!
وقد أرسل “تراجان” ردًا على هٰذه الرسالة والاستفسارات المطروحة فيها يقول: (لقد سلكتَ يا صديقي الطريق السويّ فيما يختص بالمسيحيين، لذا لا يمكن وضع قاعدة عامة تسري على كل الحالات في هذا الصدد. لا ينبغي السعي في طلبهم، لٰكن إذا اشتكى عليهم أحد ووُجدوا مذنبين فلا بُد من معاقبتهم. ومع ذٰلك، فإذا أنكر أحد أنه مسيحي وبرهن على ذٰلك عمليًا بالتضحية لآلهتنا، فليُصفحْ عنه بِناءً على توبته …).
وبِناءً على قرار الدولة هٰذا، تعرض المسيحيون لاضطهادات عنيفة قاسية، واستُشهد الكثيرون.
ومن الجدير بالذكر، أنه قد أصاب سوريا وفلسطين ومِصر خاصة الكثيرُ من الاضطهادات؛ فلقد وجه اليهود المتعصبون اتهامًا إلى سمعان أسقف أورُشليم، وحُكم عليه بالموت صلبًا سنة 107م وهو في سن المائة والعشرين!
وفي هٰذه السنة نفسها تقريبًا، حُكم على القديس أغناطيوس أسقف إنطاكية بالموت، وأُرسل إلي روما، وأُلقي إلى الوحوش الضارية. وحين ما سمِع به “تراجان” وبغيرته على انتشار المسيحية، استدعاه ودخل معه في حوار من جهة “يسوع المصلوب”، انتهى بإصداره أمرًا بأن يقيَّد أغناطيوس ويُقاد إلى روما العظمى، ليقدَّم هناك طعامًا للوحوش الضارية إرضاءً للشعب!
خرج الأسقف في حراسة مشددة من عشَرة جنود. وإذ رأى الجند حب الشعب له والتفافهم حوله عند رحيله، تعمدوا الإساءة إليه ومعاملته بكل عنف وقسوة. وما أن سمِع أن بعض المؤمنين يبذُلون كل جُهدهم لينقذوه من الاستشهاد، كتب رسالة قال فيها: [أخشى من محبتكم أن تسببوا لي ضررًا … صلّوا أن لا يوهَب لي إحسان أعظم من أن أقدِّم لله (نفسي تقدِمة)؛ مادام المذبح ما يزال مُعدًا … أطلب إليكم أن لا تُظهروا لي عطفًا في غير أوانه، بل اسمحوا لي أن أكون طعامًا للوحوش الضارية، التي بواسطتها يوهَب لي البلوغ إلى الله. إنني خبز الله؛ اتركوني أُطحن بأنياب الوحوش لتصير قبرًا لي! ولا تترك شيئًا من جسدي، حتى إذا ما مُتّ لا أُتعب أحدًا …]. وعندما وصلوا به إلى روما، أسرع به الجند إلى الساحة، وأطلقوا الوحوش عليه ـ وهو يستقبلها بوجه باش! ـ ليَثِبَ عليه أسدان ولا يُبقيا منه إلا القليل من العظام.
أما “تراجان قيصر” فقد مات في أثناء عودته إلى روما من أحد فتوحاته عام 117م. و… والحديث عن مِصر لا ينتهي …!
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي