تحدثنا في المقالة السابقة عن “تراجان قيصر” الذي تولى الحكم خلال 98 ـ 117م، وعن شهرته بأنه أفضل أمراء الدولة الرومانية، وبساطته، وإدراته الحسنة لبلاده حتى أعاد إليها مجدها القديم، إلا أن المسيحيين في عصره تعرضوا لاضطهادات عنيفة قاسية، واستُشهد الكثيرون، وأنه مات “تراجان قيصر” في أثناء عودته إلى روما من أحد فتوحاته عام 117م. ومن بعده تولى الحكم “هارديان قيصر”.
“هارديان قيصر” (117 – 138م)
لم يترك “تراجان قيصر” ابنًا يخلُفه في حكم روما؛ فقام الجيش باختيار ابن عمه “هارديان قيصر” ـ الذي كان آنذاك قائدًا لجيوش بلاد الشام ـ حاكمًا على البلاد. ولم يكُن “هارديان” ـ كقيصر روما السابق ـ يسعى للفتوحات والتوسع في حدود الإمبراطورية الرومانية، بل كان لا يحب الحروب، غير مهتم بالتوسعات، مؤْثرًا السلامة والحفاظ على حدود بلاده وممتلكاتها.
وقد كان “هارديان” شخصية غريبة الأطوار ومتناقضة الأحوال؛ فتارة تجده مع رعيته حليمًا وتارة أخرى غضوبًا. وكان يميل أحيانا إلى الفضائل وعلى النقيض تمامًا يسعى نحو الرذائل! كذٰلك لم يكن يُدرك نتائج الأمور؛ فقد أكثر من الضرائب والغرامات حتى أصبح الشعب يئن تحت وَطأتها. وقد أشرك معه في الحكم رجلًا يُعد من أسوأ الرجال خُلقًا؛ ما أدى إلى غضب الشعب عليه ووصفوه بالطيش والخلل العقليّ! إلا أنه وعلى سبيل تناقض شخصيته الشديد، فقد اهتم بتشييد المباني والعمائر الكبيرة. وكان معروفًا عنه بميله إلى المعارف والآداب والعلوم.
أمّا عن تأثير مدة حكمه في مِصر، فقد كانت أيامه غزيرة الخير كثيرة البركات. إلا من حدث واحد وقع بالإسكندرية: فبعد إخماد فتنة اليهود، جرت فتنة شديدة وعظيمة بسبب العجل “أبيس” الذي يعبده المِصريون. فقد ظهر عجل جديد يُشبه العجل “أبيس” مما أدى إلى حدوث الكثير من النقاش والصراع في شأن المكان الذي سيربَّى فيه العجل، وكيفية إرضاعه، والتحقق من أنه العجل “أبيس” معبودهم. وقد أدى هٰذا الصراع بين طوائف الشعب إلى حدوث حرب شديدة وعنيفة في كل البلاد. وعندما وصلت أخبار هٰذه الصراعات إلى “هارديان” أسرع بالحضور إلى مِصر لإخماد الفتنة، كما أنه أسرع بالسعى لإزالة الفجوة التي كانت بين المِصريين واليونانيين الذين يعيشون بالإسكندرية.
وفي أثناء زيارته مِصر، تفقد أرجاء البلاد وفرِح به شعب مِصر كثيرًا حتى إنهم سكّوا له العملة باسمه وبتاريخ وصوله إلى البلاد المِصرية! وقد قام بزيارة صَعيد مِصر في رحلة نيلية ولم يحدث ما يعكر صفو الرحلة. إلى أن مات ابنه أنطونيوس فانخرط في حزن عميق. وقام “هارديان قيصر” ببناء وتشييد العمائر في روما واهتم فيها بالمعارف والعلوم على غرار ما فعل في مِصر.
وقد كتب في رسالة له عن مِصر يقول فيها: “استقصَيتُ مِصر وأحوالها وعوائدها، وكنتُ في بادئ الأمر أخُصها بالمدح وأتحاشى ذمها، فتبيَّن لي بعد التأمل والنظر أنها عِبرة لمن اعتبر. فهي طائش لا تدوم على حال، ولا تنكَف عن المشاغبة والمنافرة لا سيما في أمور الدين وما يتولد منها … إن أهل مصر دون غيرهم يميلون إلى اختلاف الكلمة ويسرعون إلى الغضب لأقل سبب … مدينة الإسكندرية هي دار الحكومة وقُراها، وهي بلدة غنية كثيرة الخير والبركات، وليس أهلها أهل بطالة وكسل، وأغلبهم حاكة الكَتان، وهم ميالون إلى الصناعة لا يُهملونها، ولا يُضيعون أوقاتهم إلا في الكسب، وكلهم عارفون بوَحدانية المعبود حتى العامة منهم. لو كانت مدينة رفيعة الدرجة في التربية والمدنية زيادة على هٰذه الآن، لأصبحت السيادة لها على جميع المدن. ومع ذٰلك فهي بكثرة أهلها وزيادة مبانيها واتساع أراضيها تستحق أن تكون عاصمة الديار المصرية؛ ولذا لم أمنعها شيئًا من حقوقها بل منحتُها جميع مزاياها القديمة وزيادة؛ لكي تكون آمنة مطمئنة.” وقد أمر “هارديان” المصريين بحفر خليج من مجرى النيل إلى مجرى القلزم ـ البحر الأحمر ـ ولكنه رُدِم.
وقد اضطهد “هارديان قيصر” اليهود وأبادهم، وبنى مدينة أورُشليم وأطلق عليها اسم “إيليا”. وعندما عاد اليهود إلى أورُشليم بعد بنائها ثاروا على حكمه، فأرسل إليهم جيشًا عظيمًا وقتلهم وخرَّب المدينة كنبوة السيد المسيح: “هوذا بيتكم يُترك لكم خرابًا”. وأمر بعدم سُكنى اليهود فيها، وأسكن بدلًا منهم اليونانيين.
وفد كان “هارديان” شديد الاضطهاد نحو المسيحيين؛ فأمر بقتلهم، وبأن تُعبد الأوثان، وأيضًا قام بالتضييق عليهم بشدة. وجاء إلى مِصر وقتل عددًا كبيرًا لا يُحصَى؛ حتى إن أحد المؤرخين ذكر أنه: “جاء إلى مِصر، وكاد أن يُفني ما بها من مسيحيين مِن كثرة مَن قتله.”
أمّا المسيحيون في أورُشليم، فكانوا يترددون على موضعي القبر المقدس والصليب للصلاة، إلا أن اليونانيين الساكنين هناك قاموا بمنعهم وبنَوا هيكلًا على اسم “الزهرة”. وفي عام 138م قضى”هارديان قيصر” نحبه، وجاء “أنطونيوس بيوس قيصر” خلفًا له.
“أنطونيوس بيوس قيصر” (138 – 161م)
رُشح “أنطونيوس بيوس قيصر” من بعد موت “هارديان” لحكم البلاد. وكان مشهورًا بين أمراء روما بكرم النفس وحسن التربية، كما كان ذكيًا، كريم الأخلاق، مهتمًا بتحقيق الأمن للبلاد وللرعية.
وقد وجه مجهودًا كبيرًا في إدارة البلاد وتقدم التجارة والصناعة، وكان يهتم بالتدقيق في أمور البلاد الاقتصادية وفي نفقاتها مبتعدًا عن كل أمور التَّرَف والبذَخ مما أدى إلى انتعاش الاقتصاد بروما، حتى إنه ذُكر في شأنه على ألسنة مؤرخي عصره أنه: “لو تكفل بالإنفاق على جميع الرعية بسعة لأمكنه ذٰلك”.
اهتم “أنطونيوس بيوس قيصر” بتشييد البنايات العظيمة التي كانت تُعد من أعظم بنايات العصر؛ مما جعل هيبته في أعين ملوك جميع الأمم. ولم يكُن في هٰذا الوقت من يعادله من الملوك في حسن سياسته وتدبيره أمور مملكته.
أمّا أمور مِصر في أيام حكمه فقد كانت أيامًا هادئة، وكان العدل يسودها فكثُر البناء والتشييد في أيامه. إلا من بعض ما كان يصدر من اليونانيين القاطنين بالإسكندرية، فقد كانوا كثيري الفتن والعِصيان حتى إنهم قتلوا حاكم مِصر. وهٰكذا تصاعدت الأمور حتى جاء “أنطونيوس بيوس قيصر” بجيش كبير إلى مِصر، ودخل الإسكندرية منتصرًا وأعاد إليها الهدوء. وقد مات هٰذا القيصر عام 161م ورعيته تَبكيه حزِنًا. ثم تولى من بعده “ماركوس أوريليوس قيصر” و … والحديث عن مِصر لا ينتهي …!
الأسقف العام ورئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي