No Result
View All Result
يحتفل مَسيحيُّو العالم اليوم بـ”عيد القيامة”. أتقدم بالتعزية لأسر شهداء كنيستي “مار جرجس بطنطا” و”المَرقسية بالإسكندرية”؛ راجيًا الرب أن يمنح الجميع كل صبر وتعزية ورجاء في هٰذه الأيام المباركة.
القيامة ناقوس الخلود
القيامة هي طريق البشر جميعًا بعد اجتيازهم جسر الموت، ولقد عبّر السيد المسيح عن حقيقتها التي حاول بعضٌ إنكارها فقال: “وأما من جهة قيامة الأموات، أفما قرأتم ما قيل لكم من قِبل الله القائل: أنا إلٰه إبراهيم وإلٰه إسحٰق وإلٰه يعقوب؟ ليس الله إلٰه أموات بل إلٰه أحياء.”. وهٰكذا تكون “القيامة” ناقوسًا يدق معلنًا أن حياة الإنسان لم تنتهِ بالموت ولٰكنها مستمرة إلى الأبد، وعليه أن يُعد عُدته في أثناء حياته على الأرض من أجل أن يستعد “للقيامة” وحياة الخلود. وقد عبّرت الحضارات القديمة عن تلك الحياة الخالدة التي سوف يحياها الإنسان بعد اجتيازه موت الجسد، ورأينا صفحات التاريخ تحدثنا عن محاولات إعداد البشر لحياة البعث والخُلود من خلال فكرة تحنيط الأجساد، أو بناء الأهرام، أو التعاليم التي تقدَّم للإنسان كي ما يستعد روحيًّا ليوم الحساب. كما نادت الأديان في تعاليمها بالقيامة من الأموات وخُلود الإنسان.
القيامة ناقوس العدل
القيامة هي أيضًا ناقوسًا مدوِّيًا يُعلن “عدل الله”؛ ففي يوم “القيامة” سوف يأتي كل إنسان بجميع ما صنعه في حياته من أعمال إلى الدينونة؛ فيحكم الله بعدل على كل أحد بحسبما صنع: خيرًا كان أو شرًّا. وبذٰلك تكون “القيامة” مصدر راحة وسلام وفرح لأولٰئك الذين أمضَوا حياتهم في زراعة الخير والمحبة والرحمة أينما وُجدوا، ومع الجميع لا سيما المحتاجون منهم، دون انتظار رد أو مقابل. وفي هٰذا قال السيد المسيح: “إذا صنعتَ غداءً أو عشاءً فلا تدَع أصدقاءك ولا إخوتك ولا أقرباءك ولا الجيران الأغنياء، لئلا يدعوك هم أيضًا، فتكون لك مكافأة. بل إذا صنعتَ ضيافة فادعُ المساكين: الجُدْع العُرْج، العُمْي، فيكون لك الطوبى إذ ليس لهم حتى يكافوك، لأنك تُكافَى في قيامة الأبرار.”. والله هو وحده من يعرف قلوب بني البشر وما تحمله من خير أو شر. وعلى النقيض الذين لا يُدركون سوى ما تراه أعينهم. أعجبني قول لأحدهم: [أشعر براحة عجيبة عندما أستشعر أن الحساب يوم «القيامة» بيد الله وحده لا بيد أحد من البشر؛ فما أقسى بعض البشر في حكمهم عليك وفي أسلوبهم!]. أيضًا تكون “القيامة” فرحًا وسعادة لمن تألم في حياته أو ظُلم من دون شر أو ذنب اقترفه، ففي “القيامة” والحياة الأبدية سوف يعوضه الله عن أتعابه وضيقاته، فيقول “الكتاب”: “وسيمسح الله كل دمعة من عيونهم، والموت لا يكون في ما بعد، ولا يكون حزن ولا صراخ ولا وجع فيما بعد، لأن الأمور الأولى قد مضت».”.
أمّا عن الأشرار، فإن “القيامة” بالنسبة إليهم مصدر جزع وخوف واضطراب إذ سيحصُِدون فيها ما قدموه من عدم رحمة أو شفقة للبشر، حتى إنهم سوف يرتاعون من الوُقوف أمام الله الديان، طالبين من الجبال والآكام أن تغطيهم حتى لا يقفوا أمام منبر الله العادل!! وفي مثل “الغنيّ ولعازر” نجد أن “لعازر” كان إنسانًا فقيرًا مريضًا مطروحًا عند باب الإنسان الغنيّ الذي كان يَلبَس أفضل الملابس متنعمًا ومترفهًا في حياته. وكان “لعازر” يشتهي أن يأكل من الفتات الساقط من مائدة الغنيّ، ولٰكنه لم يجد الرحمة من ذٰلك الغنيّ؛ وعندما مات كلاهما حملت الملائكة “لعازر” المِسكين إلى حيث “إبراهيم” أبي الأنبياء، في حين كان مصير الغنيّ أن يذهب إلى جَهنم حيث رفع عينيه وهو في “الهاوية” والعذاب فرأى “إبراهيم” من بعيد و”لعازر” معه، فنادى: “يا أبي إبراهيم، ارحمني، وأرسِل لعازر ليبُل طرف أصبعه بماء ويبرِّد لساني لأني معذَّب في هٰذا اللهيب. فقال إبراهيم: يا ابني، اُذكر أنك استوفيتَ خيراتك في حياتك، وكذٰلك لعازر البلايا. والآن هو يتعزى وأنت تتعذب.”. لقد كانت مشكلة الغنيّ الأولى أنه لم يرحم نفس المسكين ويعينها في ضعفها على الأرض؛ لذٰلك لم يحصُِد الرحمة في الأبدية؛ فما يزرعه الإنسان إياه يحصُِد. أيضًا من الذين سوف يرتاعون يوم القيامة كل من: ظلم إنسانًا في الحياة وحكم عليه حكمًا جائرًا، أو تسبب له في أي نوع من أنواع الأذى؛ إذ من ظلم لا بد له أن يجازَى على ذٰلك الظلم، وبما سببه من آلام للآخرين.
إن الله ـ تبارك اسمه ـ يرى ويعرف خفيات كل أمر، وما تحمله قلوب بني البشر، وما يحاك في الخفاء، وهو ضابط الكون فما يسمح به هو لخير أبنائه، وإن لم تُدركه حدود عقول البشر. لٰكن سيأتي زمن يعرف فيه الإنسان ويفهم ما هو لخيره. وعدل الله يبدأ في حياتنا على الأرض؛ فهو يُرسِل سلامًا وتعزية لكل نفس متألمة، وهو لن يترك ظالمًا أو قاسيًا أو شريرًا دون عقاب. وهنا أتذكر قصة أحد الرجال كان يعمل جزارًا، وفي يوم من الأيام وهو يقود سيارته في أثناء عودته من عمله، لاحظ امرأة مغشيّ عليها على جانب الطريق؛ فتوقف لنجدتها وأسرع إليها، فإذا هي مقتولة بسِكين حاد!! في أثناء ذٰلك رآه أحد المارة وظن أنه قاتِلها؛ فاستحضر الشرطة وألقَوا القبض عليه. وفي أثناء التحقيقات، كشف ذٰلك الرجل عن سر له طالما أخفاه عن البشر: أنه وهو في مقتبل العمر كان يعمل على مركَب، وقد قتل امرأة وابنها دون أن يراه أحد!! ومرت سنوات طويلة دون أن يكتشف أحد أمره، حتى وقعت تلك الحادثة التي اتُّهم بالقتل فيها دون أن يرتكبها. عزيزي: إن الله عادل ولن يصمت طويلاً على ظلم إنسان؛ وهنا أتذكر قصيدة “للكون إلٰه” لمثلث الرحمات “البابا شنوده الثالث”، يقول فيها:
إِنَّ لِلْكَونِ إِلٰهًا لَيْسَ مَعْبُودًا سِوَاهُ
إِنَّهُ أَصْلُ الْوُجُوْدِ إِنَّهُ أَصْلُ الْحَيَاة
ينْحَنِي الْناسُ خُضُوعًا وَلَهُ نُحَنِي الْجِبَاه
فِي رُكُوْعٍ فِي سُجُوْدٍ فِي ابْتِهَالٍ فِي صَلَاة
يَجِدُ الْوِجْدَانُ فِي حُبِّهِ أَسْمَى مُشْتَهَاه
كُلُّ مَا أَبْغِيهِ أَنْ أَقْضِيَ عُمْرِي فِي رِضَاه
هَوَ فِي الْأَذَهَانِ دَوْمًا وَهُوَ عَالٍ فِي سَمَاه
وَيَحَارُ الْعَقْلُ فِيهِ لَيْسَ يَدْرِي مَا مَدَاه
إِنَّهُ الْخَالِقُ وَالْحَافِظُ أَوْ حَامِي الْحِمَاة
إِنَّهُ رَبُّ الْبَرَايَا إِنَّهُ رَاعي الرعاة
القيامة ناقوس الاهتمام
كثيرًا ما تمر الأيام بالبشر وهم منشغلون عن أمور حياتهم الأبدية بالعمل من أجل بناء حياتهم في العالم، وهٰذا ليس أمرًا مرفوضًا أو خطأً، ولٰكن الخطأ أن ينشغل الإنسان عن عمل ما يُفيد حياته الروحية وأبديته؛ لذٰلك يأتي مع الاحتفال بـ”عيد القيامة” التساؤل: ماذا فعلتَ هٰذا العام من أجل حياتك الخالدة بعد الموت؟! لهٰذا، لتكُن حريصًا على تحمل أيام حياتك في ساعاتها ودقائقها من أعمال المحبة والرحمة والعطاء لكل إنسان، متذكرًا أن ذٰلك هو الكَنز الحقيقيّ الذي يمكن أن يصحَبنا إلى ما بعد الموت حيث “القيامة” والخلود. إن المال والسلطة قد يُفيدان بقدر في الحياة، والبشر قد يهوّنون علينا مشقة طريق زماننا، أمّا أعمالنا فهي ما سوف يصطحبنا أمام عرش الله.
نطلب إلى الله أن تمتلئ “مِصر” بالسلام، وبالمحبة التي توطد بين المِصريِّين جميعًا، كما نطلب من أجل سلام “الشرق الأوسط” والعالم. و … وفي “مِصر الحلوة” الحديث لا ينتهي …!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافي القبطي الأرثوذكسي
No Result
View All Result