تحدثنا فى المقالة السابقة عن مدة حكم «علىّ بن يَحيَى الأرمنىّ» الثانية على «مِصر» التى لم تدُم طويلاً، قُرابة سنة وثلاثة أشهر إلا بضعة أيام، وقد شهِدت أوامر الخليفة «المتوكل» فى معاملة «المَسيحيِّين» و«اليهود». ثم تحدثنا عن كل من «إسحاق بن يَحيَى»، و«عبدالواحد بن يَحيَى» حاكمَى «مِصر»، وصولاً إلى «عَنْبَسة بن إسحاق».
ومع بَدء حكم «عَنْبَسة» أغار «الروم» على «دِمياط» فى عدد كبير من المراكب. وقد ذكر المؤرخون أنهم وجدوا المدينة خالية من الجنود، فقتلوا وسبَوا ونهبوا، فقال المؤرخ «التَّغى» عن ذلك: وكان سبب غفلة «عَنْبَسة» عن «دِمياط» أنه قَدِم عليه «عيد الأضحى» وأراد طُهور ولَدَيه يوم العيد حتى يجمع بين العيد والفرح، واحتفل لذلك احتفالاً كبيرًا حتى بلغ به الأمر أن أرسل إلى ثُغَرى «دِمياط» و«تنيس» فأحضر سائر مَن كان بهما من الجند والخُرْجيّة (القائمين على جمع الضرائب) والزرّاقين (الصيادين بالرماح القصيرة) وغيرهم، وكذلك من كان بثُغر «الإسكندرية» من المذكورين، فرحلوا إليه بأجمعهم، واتفق مع هذا أنه لما كان صبح «يوم عرفة»، أن هجم على «دِمياط» ثلاثمائة سفينة مشحونة بمُقاتِلة (جمع مُقاتِل) الروم، فوجدوا البلد خاليًا من الرجال والمُقاتِلة ولم يمنعهم عنه مانع، فهجموا على البلد وأكثروا من القتل، والسبى، والنهب.!! ويستكمل أن «عَنْبَسة» كان قد غضِب على أحد كبار رجال «دِمياط» ويسمَّى «أبا جعفر بن الأكشف»، فقبض عليه وقيده ثم حبسه، وعندما أغار «الروم» على «دِمياط» ذهب إليه أعوانه وأخرجوه من حبسه، ثم جمع إليه بعض أهل البلد وحارب «الروم» وانتصر عليهم، فتركوا «دِمياط».
وفى عام 240هـ (855م)، ثار أهل بلاد «البِجا»- وكان يُطلق عليها اسم «الصَّعيد الأعلى»- من معاملة الديار المِصرية، أمّا اسم هذه البلاد فهو «البِجة» أو «البِجا» أو «البِجاة»، ويُطلق على قاطنى المَِنطِّقة بين ساحل «البحر الأحمر» و«نهر النيل» فى «السودان»، وشعبها من أقدم الشعوب الأفريقية، ومعاصر لفراعنة «مِصر» فى حروب دائمة معهم، وقد كسر هذا الشعب طاعته وامتنع عن تقديم ما كان مقررًا عليه من الضرائب، وهو بحسب ما يذكر «التَّغْرىّ»: «فى كل سنة خمسمائة نفر من العبيد والجوارى، مع غير ذلك من البُخْت (الإبل) البِجاوية، وزرافتين، وفيلين، وأشياء أُخَر. وقد تعرض أفراد هذا الشعب للعاملين فى مناجم «الزمرد»، ثم أغاروا على مدن الصَّعيد الأخرى مثل «إسنا» و«إدفو» ففر أهل الصَّعيد من بلادهم نتيجة تلك الغارات.
وصل أمر أهل بلاد «البِجا» إلى «عَنْبَسة» الذى أعلم الخليفة «المتوكل» بما حدث. لكن «المتوكل» فتَرت عزيمته عن إرسال جيش إليهم لإخضاعهم: إذ علِم من مشيريه العارفين بأهل تلك البلاد وبطرقها ومسالكها صعوبة الطريق ووعورته للوصول إليهم ومحاربتهم، إذ يبعدون مسيرة شهرين عن ديار «مِصر»، وعند محاربتهم يطلبون معونة ملوك الممالك التى تجاورهم. وصل أمر تلك البلاد إلى سمْع أحد قواد الخليفة وهو «مُحمد بن عبدالله القُمّى»، فطلب إلى الخليفة أن يُرسِل بأوامره إلى حاكم «مِصر» ليمُده بالخيل والرجال والجمال مع الأسلحة والأموال ليعبر إلى بلاد «البِجا» ويقاتلها. وهكذا أمر الخليفة «المتوكل» بتجهيز القائد «مُحمد بن عبدالله القُمّى» بجميع ما يحتاجه، وكتب إلى حاكم مِصر «عَنْبَسة» بتولية «القُمّى» على «الصَّعيد الأعلى»، وأن تُترك له حرية التصرف فيه كيفما يشاء، وأن يمُده بما يحتاجه من المُؤَن والعتاد والرجال.
عندما وصل القائد «مُحمد القُمِّىّ»، قام «عَنْبَسة» بتنفيذ ما أمر به «المتوكل» فأمده بجميع ما يُعْوزه وتنازل له عن حكم عدد من بلاد الصَّعيد منها: «قِفط»، و«القُصير»، و«إسنا»، و«أرمنت»، و«أُسوان». وبعد أن تمت «للقُمِّىّ» جميع التجهيزات والإعدادات، أبحر فى سبعة مراكب، ورحل متجهًا من مدينة «قوص» صوب بلاد «البِجا» حتى اقترب من مدينة «دنقلة». وصلت أخبار وصول قوات الجيش العباسىّ إلى ملك «السودان»، وكان يُدعى «على بابا»، فأعد عُدته للحرب، واجتمعت إليه أعداد غفيرة من البشر، لكن أدوات حربهم لم تكُن تتعدى الحِراب والمزاريق (الرماح القصيرة)، فما إن رأَوا الجيش القادم عليهم حتى أدركوا أنهم لا يقوَون على محاربته، فخططوا لمرواغة «مُحمد القُمِّىّ» وجيشه حتى يُدركهم التعب وتَنفَد مؤونتهم، فبدأوا فى التنقل من مكان إلى آخر، وهو يتتبعهم حتى طال بهم الزمن فأدركوا أن لا بديل لهم عن الحرب، وهكذا اندلعت الحرب بين الجيشين وكان التفوق من نصيب «العباسيِّين» وهو ما جعل ملك السودان «على بابا» يتيقن أنه لن يتمكن من الانتصار ولا بديل عن التصالح، فأرسل إلى «القُمِّىّ» طالبًا منه الأمان وعقد الصلح، على أن يقوم بتسديد ما كان عليه فكان له. ثم طلب «القُمِّىّ» من ملك «السودان» أن يتجه معه إلى الخليفة «المتوكل» فقبِل، تاركًا إدارة شُؤون بلاده لابنه، ثم التقى الخليفةَ الذى عفا عنه وأعاده إلى بلاده.
وفى عام 242هـ (857م)، ورد إلى «عَنْبَسة» رسالة الخليفة بتولية أمور «مِصر» «للفتح بن خاقان» بدلاً من ابنه «المنتصر»، وأن يُدعى له على المنابر بعد الخليفة كما هى العادة، وفى العام نفسه، عُزل «عَنْبَسة» عن حكم «مِصر» بعد أن مضَّى بها أربع سنوات وأربعة أشهر، شاهدةً مدة حكمه عددًا من الأحداث فى بعض البُلدان، منها: حُدوث زلزلة أثناء الليل وسقوط قطعة كبيرة طولها ثمانون ذراعًا وعرضها خمسون من الجبل الذى تُطل عليه مدينة «طبرية» أودت بحياة كثير من أهلها، وسقوط البَرَد (قِطع ثلج صغيرة من السماء) على العراق قاتلاً عددًا من المواشى، وخَسِفت الأرض فى عدد من القرى فى «المغرب»- ذُكر أنها ثلاث عشْرة مدينة- ومات أهلها ولم ينجُ منهم سوى قرابة أربعين رجلاً، ووقوع الزلازل فى عدد من المدن كان أكثرها بمدينة «الدامْغان»- وهى مدينة كبيرة بين «الرَِّى» و«نيسابور» وحاليًّا تقع فى شَمال «إيران»- تسببت فى قتل آلاف من البشر، وقيام ثورة أهل «حِمص» على حاكمهم ولكن أُخضِعوا سريعًا. وقد ذكر كل من المؤرخَين «الكِندىّ» و«المقريزى» عن «عَنْبَسة»: (و«عَنْبَسة» هذا: هو آخر من وُلِّى «مِصر» من العرب وآخر أمير صلى فى «المسجد الجامع»، وخرج من «مِصر» فى شهر «رمضان»، وتوجه إلى «العراق» سنة أربع وأربعين ومئتين). كما ذكر عنه «التَّغْرىّ» أنه رد المظالم عن الشعب، وخلَّص الحقوق، ونَصَف الناس، وأظهر الرفق والعدل والإحسان للرعية، وأنه كان يتوجه ماشيًا من مسكنه بالعسكر إلى «المسجد الجامع»، وكان ينادى فى شهر «رمضان»: السحور، ثم تولى حكم «مِصر» من بعده «يزيد بن عبدالله» و… وعن « مِصر الحلوة» الحديث لا ينتهى…!
الأسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأُرثوذكسىّ