تحدثنا فى مقالة سابقة عن وفاة كل من: «الموفَّق بالله» ومن بعده الخليفة «المُعتمِد على الله»، ومواجهة «خُمارَوَيْه» بن أحمد بن طولون الذى كان يحكم «مِصر» آنذاك كثيرًا من الحروب التى انتهت بانتصاره وعقْد صلح مع كل من «المُعتمِد» و«الموفَّق» بعد توتر العلاقات فى زمن أبيه «أحمد بن طولون»؛ وهٰكذا استتبت الأمور لـ«خُمارَوَيْه» فى «مِصر»، وساد السلام وبخاصة بعد تولى «المُعتَضِد بن الموفَّق» أمور الخلافة وزواجه بـ«قطر الندى» ابنة «خُمارَوَيْه» الذى احتفل بزواج ابنته احتفالاً عظيمًا منفقًا مبالغ طائلة فى تجهيزها؛ وذكر المؤرخون أنه شيد لها قصرًا فى كل مرحلة من مراحل رحلتها من «مِصر» إلى «بغداد» حتى قدِمت إليها عام 282هـ (895م).
اهتم «خُمارَوَيْه» بعمارة قصر أبيه، وجعل الميدان المجاور لجامع «ابن طولون» بستانًا عجيبًا زرع فيه الأشجار والرياحين والورود والزعفران والنخل الذى أتى به من «خُراسان»؛ وذكر المؤرخون أن «خُمارَوَيْه» بنى بالبستان برجًا من «خشب الساج» المنقوش بالنقر البارز، وبَلَطَ أرضه، وصنع فيه أنهارًا يجرى بها الماء من سواقىَ، ثم ملأ البرج بالطيور الحسَنة الأصوات وبالطواويس وبغيرها؛ وقد صنع «خُمارَوَيْه» لنفسه مكانًا فى البستان أطلق عليه اسم «دار الذهب» إذ طلى حوائطه بالذهب، وزيّنه بالصور الخشبية، حتى صار قصره من أعجب ما بُنى فى الدنيا. ثم بنى بركة ملأها زئبقًا وصنع «خُمارَوَيْه» لنفسه فيها فراشًا لينام عليه بعد أن شكا إلى طبيبه بالسهر وعدم قدرته على النوم، أيضًا قام ببناء قبة عظيمة كان يُشرف منها على المدينة، وبنى دارًا تعيش فيها السباع؛ وقدم لنا المؤرخون قصة أحد السباع الذى سُمى باسم «زُرَيق» إذ كان أزرق العينين، والذى كان أليفًا لا يؤذى أحد فصار يجول حرًّا فى القصر، ولا يأكل إلا عندما يجلس «خُمارَوَيْه» لتناول الطعام فيطعمه بنفسه من الطعام الذى على المائدة، وعند نوم «خُمارَوَيْه» كان «زُرَيق» يقوم بحراسته لا يغفل عنه لحظة واحدة فما كان أحد يستطيع الاقتراب من «خُمارَوَيْه». أيضًا قام ببناء دار جديدة للنساء من أمهات أولاد أبيه مع أخريات من أمهات أولاده. كما أوسع حظائر دوابه مخصصًا مأوًى لكل نوع منها حتى الجمال والفهود والنمور والفيلة والزرافات وغيرها، وتخذ لنفسه رجالاً من حوف عُرف عنهم الشجاعة والقوة ودعاهم باسم «المختارة». أمّا عن صفاته فيذكر «ابن تَغْرى»: «وكان خُمارَوَيْه مهيبًا ذا سطوة، قد وقع فى قلوب الناس أنه متى أشار إليه أحد بيده أو تكلم أو قرب منه لحِقه ما يكره! وكان إذا صار فى موكبه، لا يُسمع من أحد كلمة ولا سعلة ولا عطسة ولا نحنحة البتة كأنما على رُؤوسهم الطير.»!! ومن الأحداث التى شهدتها «مصر» فى أيام حكمه أنه فى السنة الثامنة منها قلت مياه النيل فى «مِصر»، وارتفعت الأسعار بها.
لم ينقضِ زمن طويل على زواج الخليفة العباسيّ بابنته حتى خرج «خُمارَوَيْه» بجيوشه إلى «دمَِشق» حيث تآمر عليه بعض من رجال خدمه الذين كانوا عشرين ونيّفًا، فقتلوه وهو على فراشه فى دمَِشق؛ وقد تعددت روايات المؤرخين فى سبب قتله. ثم نُقل إلى «مِصر» حيث دُفن عام 282هـ (896م) بعد حكم استمر قرابة اثنتى عشْرة سنة، وخلفه فى حكم «مِصر» ابنه «أبوالعساكر جيش». وكان بعد موته أن اندلعت الفتن والثوْرات ما أضعف سيطرة الطولونيِّين على البلاد؛ فعادت «طرسوس» و«قنسرين» والعواصم لحكم العباسيِّين. ولم يعُد للطولونيِّين سلطان إلا على «مِصر» و«الشام». و… ولا يزال الحديث عن «مِصر الحلوة» لا ينتهى.
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطىّ الأرثوذكسىّ