حين نتحدث عن «مِصر»، دون شك نتحدث عن العظماء من أبنائها الذين صنعوا تاريخها وأمجادها عبر العصور، لا فى قديمها فحسب، بل فى حاضرها القريب؛ وتستمر البطولات إلى منتهى الأزمان. لقد أنجبت «مِصر» أبناءً أوفياء امتلأت قلوبهم بحب الوطن وتقديم كل غالٍ فى بطولات نادرة من أجل الحفاظ عليها، وللسير بها فى نوع آخر من بطولات الإنجازات، شاهدًا لها العالم بأسره وما زال يشهد.
لقد ودع المِصريُّون جميعًا قبل أيام قليلة أحد أولٰئك العظماء الأوفياء، الذى سجلت صفحة من صفحات «مِصر» المشرقة ما صنعه حين استطاع بذكائه أن يقدم فكرة هدمت أسطورة «خط بارليف» ذٰلك السد المنيع الذى كان تحديًا كبيرًا أمام المِصريِّين؛ ليبدأ الجيش المِصريّ نقطة الانطلاق نحو النصر الغالى، محطمًا أسطورة جيش لا يُقهر أمام أنظار العالم بأسره: إنه اللواء أركان حرب المهندس «باقى زكى يوسف» الذى ترك بصمته فى القوات المسلحة و«مِصر» بل العالم.
لقد قدم اللواء المهندس «باقى زكى يوسف» فكرة مدفع مائيّ يعمل بالمياه المضغوطة لإزالة أيّ عائق رمليّ أو تراب، فى زمن قصير، دون تكاليف باهظة، أو خسائر بشرية. وقد واتته الفكرة ـ كما ذكر هو سابقًا ـ إبّان انتدابه للعمل فى مشروع السد العالى فى أبريل عام 1964م؛ ويذكرـ رحِمه الله- أنه عُين رئيس مركبات فى أحد التشكيلات فى مَِنطَِقة غرب قناة السويس. وفى أثناء مروره على العربات التابعة للتشكيل، كان يتابع بناء الساتر الترابيّ المقام على كُثبان رملية طبيعية وأخرى نتيجة حفر القناة على الشاطئ الشرقيّ منها. وإذا الجيش الإسرائيليّ يقوم بتعلية تكتلات الساتر الترابية لتصل إلى ارتفاع 12 مترًا أو يزيد، بعرض 8-12 مترًا بين مدينتى «السويس» و«بورسعيد»! كذٰلك طُمرت ألغام ومفرقعات وأُخفيت مدافع داخل الساتر. وفى أثناء ذٰلك، تمنى أن يكون الساتر فى «أُسوان» كى يتمكن من الاستفادة من خراطيم المياه التى شاهدها هناك إذ كانت تجرف الرمال إلى قاع السد. وفى مناقشة مع رؤساء العمليات عن كيفية إزالة الساتر الترابيّ، آلت جميع الأفكار والاقتراحات إلى الفشل: إذ كانت محاولة فتح ثُغرات فى الساتر الترابيّ تحتاج 12-15 ساعة، مع خسائر بشرية تصل إلى 20 ألف شهيد!! وحينئذ قدم اللواء «باقى زكي» فكرته الفذة ونُفذت لتفتح طريق النصر فى «حرب أكتوبر».
أمّا عن مشاعر اللواء «باقى زكي» حين أزيل الساتر الترابيّ وفُتحت الثُّغرات، يقول فى أحد أحاديثه الصحفية لـ«مجلة الإذاعة والتليفزيون»: «كان شعورى لا يوصف! لأننى شعرت بأن هٰذه الفكرة ساعدت بصفة مباشرة فى وصول القوات بكاملها إلى أماكنهاـ كما كان مخططًا لهاـ بأقل الخسائر، وبأقل توقيت زمنيّ لم يحسَِب له العدُو أيّ حساب، مكّنها من التجهيزات والاستعداد لمقابلته. كذٰلك كان توقيت فتح الثُّغرات المحدود عاملًا مساعدًا لفتح جميع الثُّغرات على طول القناة لمواجهة الجيوش الميدانية ما حير العدُو فى تحديد اتجاهات المجهود الرئيسيّ لقواتنا… كذٰلك أبطل عنصر المفاجأة ـ الذى تحقق باستخدام هٰذه الفكرة ـ كل التجهيزات والأعمال التى كان العدُو قد استعد بها لمقابلة أيّ عمليات عُبور كان ينتظرها طبقًا للأساليب التقليدية التى كان يتوقعها».
عاش اللواء المهندس «باقى زكى يوسف» محبًّا لبلاده ولأبناء وطنه حيث يعبّر عن سعادته الحقيقية فى تنفيذ فكرته التى أنقذت «مِصر» فى حربها كما أنها حفظت حياة أبطالها: «ربنا أكرمنى جدًّا بفكرة الساتر التراب، فبدلاً من 20 ألف شهيد عاد 20 ألف بطل»!! و… والحديث فى «مِصر الحلوة» وعن أبطالها لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافىّ القبطيّ الأرثوذكسيّ