تحدثنا فى المقالة السابقة عن اللواء أ. ح. المهندس «باقى زكى يوسف» صاحب فكرة هدم أسطورة «خط بارليف»؛ واليوم أحاول الاقتراب من شخصية ذٰلك الرجل العظيم، الذى تميزت شخصيته بعدد من المواهب والصفات:
الذكاء الحادّ
وهب الله اللواء أ. ح. المهندس «باقى زكي» عقلاً يتقد بالذكاء؛ فقد استطاع أن يلحظ وجه التشابه بين ما سجلته ذاكرته فى خبرة عمله بـ«أُسوان» وبين «خط بارليف» وإمكانية اقتحامه وتحقيق النصر عسكريًّا، حيث ظهرت براعته فى استحضار الفكرة ذهنيًّا فى وقتها المناسب؛ ففى أثناء حديث المسؤولين عن الوسائل الحربية المعروفة آنذلك عالميًّا من أجل تنفيذ اقتحام لخط بارليف، كان هو يفكر فى بدائل أخرى ـ كما يقولون: «خارج الصَُندوق»؛ ليخرج بفكرته البسيطة العبقرية وتصبح بمنزلة اختراع، وتدرَّس فى الكليات والمعاهد العسكرية العالمية.
تمتع اللواء «باقي» مع ذكائه بصفة التواضع إذ كان يرى أدوار الآخرين فى تنفيذ فكرته؛ فعندما حادثه اللواء «سعد زغلول» رئيس فرقته ـ وكان رئيسًا لحرس الحدود فى ذٰلك الوقت: «اليوم بأمضى إمضاء من أشرف إمضاءاتى العسكرية!»، وكان يقصد فكرة «تحطيم خط بارليف»، أجابه «اللواء باقي»: «لولاك ما كانت الفكرة أخذت وضعها فى العرض والدراسة والتنفيذ.»، ليرد «اللواء سعد»: «ما تقُلش كدا، يا ابني! أنت الِّى إدتنا «الطفاشة» اللى فتحت بوابة النصر!»؛ إنه تواضع العظماء: كل منهم يُدرك أهمية دور الآخر فى تحقيق الإنجازات.
الإيمان العميق
امتلك اللواء «باقي» إيمانًا عميقًا بالله وكثيرًا ما كان يردد: «ربنا إدانا الفكر»؛ فعندما سمِع بمقدار الخسائر البشرية عند استخدام الحلول التقليدية شعر بمرارة الأمر وفداحته؛ فكانت كلماته للقيادات المجتمعة: ««الساتر» عبارة عن رمال. وسبحان الله! هم عملوا المشكلة، وربنا جعل الحل تحتها!!»، وبدأ فى شرح فكرته. أيضًا عندما سئل عن تكريمه، قال: «ربنا كرمنى: عشت الفكرة، وعشت التنفيذ كرجل مسؤول، عشت الثغرات بتتفتح على الطبيعة، شفت العدُو بيجرى، شفت البلد بتنتصر.»؛ ورأينا جميعًا العالم يُبهَر.
أيضًا كان اللواء «باقي» يؤمن بأهمية دور الإنسان فى تصديه للمشكلات فيقول: «… لا يوجد حلول بالمسطرة، وإنما يجب أن تكون تفاعلية؛ لأننا لا نستورد الفكر أو السياسة؛ نحن نستخرج الفكر من كلامنا بعضنا مع بعض…».
العمل المتفاني
منذ شبابه المبكر عرَف اللواء «باقي» معنى المسؤولية وأهمية العمل الجادّ فى جميع مناحى الحياة، وقد شهِد له بذٰلك كل من عرَفه: ومن تلك الشهادات كلمات نائب رئيس هيئة العمليات اللواء «ممدوح جاد تهامي» ـ الذى كان مسؤولاً عن «الفرقة 19» قبل اللواء «سعد زغلول» ـ عندما وصفه بأنه: «ضابط جد جِدًّا، ولا يعرف الهزار»، وطلب لقاءه للاستماع إلى فكرته.
عندما بدأ اللواء «باقي» الاهتمام بفكرته، بعد عرضها على عدد من القادة، لم يعُد إلى وِحدته إلا بعد إحضاره جميع اللوحات والنشرات التى تتعلق بالتجريف من وِزارة السد العالى، كذلك استفسر عن جميع ما يعوزه للتنفيذ؛ لقد قرر أن يقدم لقيادته فكرًا متكاملاً مهما بذل من جُهد مضنى. وعندما طُلب منه تقرير مبسط عن فكرته، قضّى ليلة كاملة من أجل إعداده، على الرغم من عدم تحديد موعد لتسليم التقرير بعد ولا عدم معرفته بأنه سيقدمه إلى الرئيس «جمال عبدالناصر». وفى وقت الحرب، لم يهدأ، ولم ينَل راحة، وكان يُصر على استكمال الأعمال المطلوبة منه.
يعوزنا كثير من الوقت للخوض فى حديث عن اللواء «باقي» ـ رحمه الله ـ الذى ترك أثرًا عميقًا فى حياة كل من عرَفه أو سمِع عنه؛ يقول أحدهم: «إن أمثال هٰؤلاء (اللواء باقى) تاريخ يمشى على الأرض بيننا»!! لقد رحل عنا بالجسد، إلا أنه لم يرحل عن ذاكرة التاريخ المِصريّ ولن يغادرها.
و… والحديث عن «مِصر الحلوة» وأبطالها لا ينتهي!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطيّ الأرثوذكسى