تحدثنا فى المقالة السابقة عن «جيش بن خُمارَوَيهِ» حاكم مِصر الذى لم يستمر سوى بضعة أشهر، وخلْعه عن الحكم وموته. وبدأنا الحديث عن الخليفة «المُعتَضِد» ابن «الموفَّق» الذى قام عليه كثير من الثوْرات والقلاقل فى ولاية حكمه التى شهِدت أيضًا قيام الدولة السامانية فى «خُراسان».
«الدولة السامانية» فى «خُراسان»
تعود الدولة السامانية إلى «إسماعيل السامانى» الذى تنحدر أصوله من إحدى الأسر الفارسية التى حكمت بلاد ما وراء النهر منذ زمن الخليفة «المأمون»، والتى تمكنت من إسقاط كل من الدولتين «الصَّفّارية» و«الزَّيدية»، وهو ما رحب به الخليفة «المُعتَضِد». استمرت «الدولة السامانية» فى حكم «خُراسان» حتى عام 389هـ (999م).
نقل «المُعتَضِد» العاصمة من «سامَرّا» إلى «بغداد» مرة ثانية، ودام حكمه قُرابة عشْر سنوات حتى تُوُفِّى عام 289هـ (902م)، وآلت الخلافة إلى ابنه «المكتفى بالله».
أمّا عن أحوال الكنيسة فى ذٰلك الزمان، فقد تنيح «البابا شنودة الأول» عام 880م (277هـ)، وخلفه على الكرسى المَرقسى «البابا ميخائيل الأول» البطريرك السادس والخمسون فى بطاركة الكرسيّ المَرقسى.
«البابا ميخائيل الأول»
(266-294هـ) (880-907م)
هو السادس والخمسون فى بطاركة الكرازة المَرقسية؛ حدث بعد نياحة «البابا شنودة الأول» أن اجتمعت آراء الشعب والأساقفة على اختيار راهب من «دير القديس مقاريوس» يُدعى «ميخائيل»، مشهود له بسعة الصدر وبالهدوء وبالمعرفة الواسعة فى العُلوم الكنسية؛ ليصبح بطريرك الكرسى الإسكندرى باسم «أنبا ميخائيل الأول»، حيث كانت رسامته فى عهد حكم «أحمد بن طولون» الذى كان منشغلًا آنذاك بالحرب. اهتم «البابا ميخائيل الأول» بعد رسامته بالكنائس وتعميرها.
متاعب وضيقات
لحِقت «البابا ميخائيل» شدائد كثيرة، لٰكنه تحملها بصبر وثبات شديدين؛ منها أن أسقف «سخا» الذى قطعه من شركة الكنيسة مجمع الأب البطريرك والأساقفة لسوء أعماله دبر مكيدة للبابا متهمًا إياه كذِبًا عند «أحمد بن طولون» بأنه يمتلك أموالاً كثيرة؛ فاستدعى «ابن طولون» «البابا ميخائيل» وطلب منه أن يعطيه تلك الأموال! فأجابه الأب البطريرك أنه لا يملِك ذهبًا ولا فِضة ولا كُنوزًا من أى نوع، ما أثار غضب الوالى جدًّا فأمر بسجنه. وكان مع «البابا ميخائيل» فى السجن شماس يسمى «ابن المدبر» ـ ويذكره بعضهم بـ«ابن المنذر» ـ يخدُِم البابا ويشاركه الصوم والإفطار على خبز ومِلح وبقول مسلوقة.
ظل «البابا ميخائيل» فى سجنه قُرابة عام حتى تدخل كاتبان لدى «أحمد بن طولون» يُدعيان «يوحنا» و«موسى»، حاولا أن يشفعا لدى الوالى أن يسمح لهما باصطحاب البابا إلى منزلهما. ومع مكانة الكاتبين الكبيرة عند «ابن طولون» فلم يجِبهما إلى طلبهما؛ فلجآ إلى كاتبى الوزير «يوحنا» وابنه «مقارة» فى أمر الإفراج عن البابا؛ فكان من الوزير أنه تدخل لدى «ابن طولون» فأفرج عن الأب البطريرك الذى أقام فى منزل الوزير حتى تقرر أن يدفع مبلغ 20 ألف دينار على دفعتين: الأولى بعد شهر، والثانية بعد أربعة أشهر؛ وكتب «يوحنا» و«مقارة» صكًّا بالمبلغ وتسلما «البابا ميخائيل».
أقام «البابا ميخائيل» فى كنيسة السيدة العذراء بقصر الشمع. وعند قرب انتهاء الشهر، لم يكُن المال قد دُبر بعد؛ فقدم «يوحنا» و«مقارة» ألفى دينار، وتبرع الوزير بألف أخرى، وتم اقتراض باقى الأموال من التجار، ودُفع القسط الأول. بدأ «البابا ميخائيل» فى العمل على تجميع المال تسديدًا لدينه بتجميع قيمة القسط الثانى المطلوب. ويذكر المؤرخ «ساويرُس بن المقَفَّع» أن الضيقة الشديدة التى ألمّت بـ«البابا ميخائيل» قد اضطرته إلى سيامة أساقفة مقابل مبالغ يدفعونها! كذٰلك باع بعض ممتلكات الكنيسة من أراضٍ وبيوت وغيرها، كما بيعت نقوش الكنائس وزخارفها! وعلى كل ذٰلك، فإن الأموال التى جُمعت لم تكفِ لسداد قيمة الصكّ! و… والحديث عن «مِصر الحُلوة» لا ينتهى!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى