استكملنا الحوار فى المقالة السابقة عن الخليفة «المُعتَضِد»، و«البابا ميخائيل الأول» وما لحِقه من متاعب وضيقات ألمّت بـه من أجل تسديد ما فرضه «ابن طولون» عليه من أموال. وكان «البابا ميخائيل»، حين رأى الخطر الذى ينتظر «يوحنا» و«مقارة» اللذين ضمناه لدى الوالى، أنه توجه إلى بلدة «تانيس» فى محاولة لجمع بعض الأموال؛ وفى الطريق قابل راهب يلبَس ثيابًا قديمة موكب البابا وخاطب تلاميذه قائلاً: «قولوا لمعلمكم: إن الرب سيمزق عنه صكّ الغرامة قبل أربعين يومًا»، واختفى عنهم! ولم تمضِ أربعون يومًا حتى مات «ابن طولون»، وخلفه ابنه «خُمارَوَيهِ» الذى عفا للبابا عن بقية المال.
أكمل «البابا ميخائيل الأول» أيامه بعد أن أمضى فى البطريركية سبعة وعشرين عامًاـ ذكر بعض المؤرخين أنها خمسة وعشرون، وتنيح فى أيام ولاية «خُمارَوَيهِ».
مرت بالكنيسة القبطية بعد نياحة «البابا ميخائيل الأول» شدة ليست بقليلة؛ فلم تتمكن من رسامة بطريرك لها بسبب وقوع منازعات كبيرة، وهكذا ظلت الكنيسة دون أب بطريرك مدة أربعة عشر عامًا حتى تدخل «أنبا باخوم» أسقف طحا لدى الوالى لأنه كان يقدره؛ فرُسم «البابا غبريال الأول» على كرسيّ مار مَرقس الرسول.
جسد القديس مرقس الرسول
شهِد القرن التاسع واقعة قيام بعض تجار «البندقية» بسرقة جسد «القديس مَرقس الرسول» من الإسكندرية ونقله إلى البندقية؛ فقد كان الصراع الدائم بين «الكنيسة القبطية» و«الملكانيِّين» شديدًا حيث تمكنوا من الاستيلاء على بعض الكنائس القبطية ومنها «كنيسة بولكاليا» التى صار اسمها «الكنيسة التى تحت الأرض» لِما تعرضت له من تصغير! ففكر بعض من تجار البندقية الذين كانوا يتَّجرون فى مدينة «الإسكندرية» أن ينقُلوا جسد «القديس مرقس الرسول» من كنيسته، فوضعوه خُفيةً فى إحدى السفن وانطلقوا به إلى مدينتهم حيث وُضع فى كاتدرائية كبيرة، فى حين ظل رأس القديس مدفونًا فى «مِصر». ويؤكد لنا المؤرخ «أبو المكارم» تلك الواقعة فيقول: (لما حصل الخلاف فى الإيمان الأُرثوذكسيّ بمدينة «خلقيدون» سنة 451م، طلب الملكيون أن تقسم كنائس بينهم وبين القبط: فاختُص الملكيون بالكنيسة التى تحت الأرض والتى أُبقيَ بها جسد الرسول، واختُص القبط بالكنيسة الأخرى الجنوبية التى نُقل إليها رأس الرسول. فما كان من الإفرنج إلا أن سرقوا هذا الجسد بوضعه فى عمود مجوف من الرخام؛ ولما وصلوا بغنيمتهم إلى «البندقية»، قابلهم أهلها بفرح عظيم وجعلوا جمهوريتهم الحديثة فى حماية الأسد المَرقسيّ لِما كان لـ«مَرقس الإنجيليّ» من المآثر بـ«إيطاليا»). كذلك يذكر المؤرخ «ابن كبر»: (لم يزَل مدفونًا بالبِيعة الشرقية على شاطئ البحر بـ«الإسكندرية»، إلى أن تحايل بعض الفرنج البنادقة وسرقوا الجسد وتركوا الرأس. وتوجهوا بالجسد إلى «البندقية»؛ وهو بها إلى الآن). وعن تلك الواقعة أيضًا كتب المؤرخ «بتلر»: «… ووراء الباب الشرقيّ دير «القديس مَرقس»، ويعيش الرهبان فى تلك الكنيسة التى كان فيها مدفنه، ولكن البنادقة أتَوا فى البحر وحملوا جسده إلى جزيرتهم».
ظل جسد «القديس مار مَرقس» فى مدينة «البندقية» حتى عام 1968م حين طلب «القديس البابا كيرلس السادس» (السادس عشَر بعد المئة فى بطاركة الإسكندرية) أن يسترد جسد «مار مَرقس» كاروز الديار المِصرية لمناسبة مرور تسعة عشَر قرنًا على استشهاده، وبناء كاتدرائية على اسم «القديس مَرقس» بـ«دير أنبا رويس» بالعباسية.
وهكذا عاد جسد القديس فى الرابع والعشرين من يونيو 1968م، يصطحبه وفد كنسيُّ، واستقبله فى مطار القاهرة «البابا كيرلس السادس» وبصحبته مار أغناطيوس يعقوب الثالث بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس، ولفيف من المطارنة والأساقفة الأقباط والأجانب، مع جمع غفير من المِصريِّين مَسيحيِّين ومسلمين؛ ثم وضع الجسد بفرح عظيم فى مزار خاص أسفل الكاتدرائية المَرقسية الكبرى. و.. والحديث عن «مِصر الحُلوة» لا ينتهى!
الأُسقف العام رئيس المركز الثقافى القبطى الأرثوذكسى